ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان

ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(النساء:1)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}(الأحزاب:70-71)، أما بعد:

فإن خير الحديث كلام الله – عز وجل -، وخير الهدي هدي محمد – صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة؛ وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون عباد الله: من المعلوم كثير من الأشياء في هذه الحياة لها طعم ولذة يجدها الإنسان، وتتفاوت هذه اللذات فيما بينها من لذة لأخرى، لكن هناك لذة لا تدانيها لذة، وطعم لا يقاربه طعم؛ إنها لذة وطعم الإيمان بالله – تبارك وتعالى -.

ولأجل نيل تلك اللذة، وتذوق ذلك الطعم؛ لا بد لنا أن نقوم بجملة من الأعمال التي نذكر منها ما ذكره الإمام مسلم – رحمه الله – في صحيحه من حديث أنس – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ثلاث من كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)) رواه مسلم (43).

فأول هذه الخصال هي أن يكون الله – تبارك وتعالى – ورسوله – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – أحب إلى العبد مما سواهما، ولا يخفى على كل ذي عقل أن المولى – تبارك وتعالى – قد ذم من كره ما أحبه، أو أحب ما كرهه فقال في كتابه الكريم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}(محمد:9)، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}(محمد:28)، لذا كان من الواجب على كل مسلم عاقل موفق أن يحب ما أحبه الله – تعالى -، وأن يكره ما كرهه الله – تبارك وتعالى -؛ لتحصل له السعادة والفوز الكبير، ولا يكون الإنسان مؤمناً إيماناً قوياً صحيحاً حتى يفعل ذلك؛ فيحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -.

فمحبة الله – تبارك وتعالى – ورسوله ليست كلاماً ولا دعوى تقال؛ إنما هي محبة لها دلائل وصور ونتائج منها: امتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، والاستسلام لذلك، والانقياد ظاهراً وباطناً، وتقديم تلك المحبة على محبة الأهل والولد، بل على محبة جميع الخلق والناس أجمعين، ولهذا جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين)) رواه البخاري (15)؛ ومسلم (44)، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده)) رواه البخاري (14)، وعن عبدالله بن هشام – رضي الله عنهما – قال: كنا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك))، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((الآن يا عمر)) رواه البخاري (6257).

ثم إن المحبة الصحيحة الصادقة تقتضي المتابعة والموافقة في حب كل ما يحبه الله ورسوله، وبغض كل ما يبغضه الله ورسوله، ولهذا قال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}(التوبة:24).

وعلامة محبته – صلى الله عليه وسلم – الاقتداء به، واتباع سنته، وامتثال أمره واجتناب نهيه، والتأدب بآدابه في الشدة والرخاء، والعسر واليسر، ومن أحب شيئاً آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حبه؛ بل يكون مدعياً فحسب، ولا شك أن من علامات محبته النصيحة له لحديث: ((الدين النصيحة))، قلنا: لمن: قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه مسلم (55)، فتكون النصيحة لرسوله – صلى الله عليه وسلم – بالتصديق بنبوته، وطاعته فيما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، ومؤازرته ونصرته، وحمايته حياً وميتاً، وإحياء سنته، والعمل بها وتعلمها وتعليمها، والذب عنها، ونشرها والتخلق بأخلاقه الكريمة وآدابه الجميلة، واحترامه وتوقيره ونصرته كما قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(الفتح:9)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(الحجرات:1)، وقال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}(النور:63)، وتعظيم حرمة النبي بعد موته وتوقيره كحال حياته وذلك عند ذكر حديثه وسنته، وسماع اسمه وسيرته، وتعلم سنته، والدعوة إليها ونصرتها قال الله – جل جلاله -: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(آل عمران: 31) قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله – في تفسير الآية: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) رواه مسلم (1718)، ولهذا قال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: "ليس الشأن أن تُحِبَّ إنما الشأن أن تُحَبَّ"، وقال الحسن البصري وغيره من السلف: "زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}"1، وقال العلامة الشنقيطي – رحمه الله – في تفسيره: "صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: أن اتباع نبيه موجب لمحبته جل وعلا ذلك المتبع، وذلك يدل على أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي عين طاعته تعالى، وصرح بهذا المدلول في قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}(النساء:80)، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}(الحشر: 7)، يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم هي اتباعه – صلى الله عليه وسلم -، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر؛ إذ لو كان محباً له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة، ومنه قول الشاعر:

لو كان حبك صادقاً لأطعته              إن المحب لمن يحب مطيع

وقول ابن أبي ربيعة المخزومي:

ومن لو نهاني من حبه            عن الماء عطشان لم أشرب"2

وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله -: "وهذه الآية فيها وجوب محبة الله، وعلاماتها، ونتيجتها، وثمراتها، فقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ} أي: ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة؛ فلا يكفي فيها مجرد الدعوى بل لا بد من الصدق فيها، وعلامة الصدق اتباع رسوله – صلى الله عليه وسلم – في جميع أحواله: في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن، فمن اتبع الرسول دلَّ على صدق دعواه محبة الله – تعالى -، وأحبه الله، وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته، ومن لم يتبع الرسول فليس محباً لله – تعالى -؛ لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله، فما لم يوجد ذلك دلَّ على عدمها، وأنه كاذب إن ادعاها، مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها، وبهذه الآية يوزن جميع الخلق، فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله، وما نقص من ذلك نقص"3.أ.هـ.

أيها المسلمون عباد الله: من أحب الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – محبة صحيحة صادقة من قلبه؛ أوجبت له تلك المحبة بقلبه أن يحب ما يحبه الله – تبارك وتعالى -، ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئاً يخالف ذلك دلَّ على عدم محبته الواجبة؛ فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه من ذلك، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة

يا مدَّعي حب طه لا تخــالفه الخُلف يحـرم في دنيا المحبينا

أتحب أعداء الحبيــب وتدعي          حباً له ما ذاك في الإمكانِ

وكذا تعــادي جاهداً أحبابه        أيـن المحبة يا أخو الشيطان

شرط المحبة أن تـــوافق من       تحب على محبته بلا عصيان

وقال الآخر:

أراك تــأخذ شيئاً من شريعته وتتـــرك البعض تدويناً وتهوينا

خذها جميعاً تجد فوزاً تفـوز به أو فاطَّرِحْهَا وخذ رجس الشياطينا

أيها المسلمون عباد الله: اعلموا أن جميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى الإنسان ونفسه على محبة الله – تبارك وتعالى – ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، وكذلك البدع كلها إنما تنشأ من تقديم الهوى على شرع الله – تبارك وتعالى -، بل وصل الأمر ببعضهم أن {اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}(الجاثية:23)، فكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ورسوله، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصاً في إيمانه الواجب.

فالتوبة التوبة عباد الله، والرجوع إلى كتاب الله، وسنة رسول الله – صلوات الله وسلامه عليه -، مع تقديم محبة الله – تعالى -، ورسوله – صلى الله عليه وسلم –، وما يحبانه؛ على هوى النفس ومراداتها؛ ولذا فقد كانت التثنية في الحديث ((ثلاث من كن فيه …إلخ)) نقول كانت التثنية بمحبة المرء لا يحبه إلا لله، فيحب الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموماً، ومن أحب لله – تبارك وتعالى – وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان قال الله – تبارك وتعالى -: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}(النازعات:40)، وقال الله – تبارك وتعالى -: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}(النازعات:41).

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي عزَّ فارتفع، وعلا فامتنع، وذلَّ كل شيء لعظمته وخضع، القائل في كتابه الكريم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(سورة الحجرات:10)، والصلاة والسلام على البشير النذير محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الكرام، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

أيها المسلمون عباد الله: فقد أسلفنا في الخطبة الأولى أن للإيمان حلاوة ذاقها من ذاقها، وحُرمها من حُرمها، فلا يذوق حلاوة الإيمان إلا من جمع ثلاث خصال كما في حديث أنس – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار)) رواه مسلم (43)، وعرفنا أن من تمام الإيمان بالله – تبارك وتعالى – اتباع أوامره، وطاعته في كل أمر، وترك كل ما نهى عنه في كتابه الكريم، وكذلك طاعة النبي – صلى الله عليه وسلم – فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، والأدلة على ذلك كثيرة جداً منها قول الله – تبارك وتعالى -: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(سورة آل عمران:132)، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(سورة النساء:59)، وقال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}(النور:54)، وغير ذلك من الآيات.

أيها المسلمون: والخصلة الثانية: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله – تبارك وتعالى -، فلا يحب الناس لأجل حطام الدنيا، أو لأجل المصالح الشخصية، وهذا من تمام الأخوة في الله – تبارك وتعالى -، وقد جاء في فضل الأخوة كثير من الأخبار، فجاء الأمر بالمحافظة عليها، ثم جاء الأمر في كتاب الله – تبارك وتعالى – بالإصلاح إن وقع هناك خلاف بين المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الحجرات:10)، وجاء في مسند الإمام أحمد قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((المتحابون في الله – تبارك وتعالى – في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، يغبطهم بمكانهم النبيون والشهداء))، قال: ثم خرجت فألقى عبادة بن الصامت قال: فحدثته بالذي حدثني معاذ فقال عبادة: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يروي عن ربه – تبارك وتعالى – أنه قال: ((حقَّت محبتي على المتزاورين في، وحقَّت محبتي على المتباذلين فيَّ، على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون))4، وثبت في الأحاديث الصحيحة أن المتحابين من أجل الله – تبارك وتعالى – يظلهم الله – تبارك وتعالى – في ظله يوم لا ظل إلا ظله فعن أبي هريرة – رضي الله عنه -: عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)) رواه البخاري (629)؛ ومسلم (1031)؛ وفي بعض الألفاظ للبخاري: ((يوم لا ظل إلا ظله)) برقم (6421)، وإن من تمام الأخوة يا عباد الله: أن تتفقد أحوال إخوانك، وترحمهم، وتنصح لهم برفق ولين، وتعينهم على الخير.

الخصلة الثالثة: هي: ((وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار))؛ وفي هذه الخصلة بيان لعقيدة الولاء والبراء، بالتبري من الكفر وأهله، وحب الإيمان وأهله قال الله – تبارك وتعالى – في محكم التنزيل: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(المجادلة:22)، وعن أبي أمامة – رضي الله عنه -: عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان))5.

فعليكم يا عباد الله بالحرص على ما يقوي الإيمان بالله تبارك وتعالى حتى تفوزوا برضاه، وعليكم المسارعة لفعل الطاعات، نسأل الله تعالى التوفيق والسداد لكل خير إنه على كل شيء قدير.

عباد الله: صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في قوله – تبارك وتعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(الأحزاب:56)، وقد قال – عليه الصلاة والسلام -: ((من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً)) رواه مسلم (384)، فاللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد – صلى الله عليه وسلم -، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهراً وباطناً، اللهم أعنَّا على طاعتك يا أكرم الأكرمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ومن لهم حق علينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس يا أكرم الأكرمين ويا رب العالمين، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار يا عزيز يا غفار {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(البقرة :201)، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 تفسير القرآن العظيم (2/32) لابن كثير، تحقق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2 1420هـ – 1999م.

2 أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/199) للعلامة محمد الأمين الشنقيطي، دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع بيروت – لبنان 1415هـ – 1995م.

3 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (128) للعلامة عبدالرحمن بن ناصر بن السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ -2000م.

4 رواه الإمام أحمد في المسند برقم (22834) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط2، سنة النشر 1420هـ – 1999م؛ وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3019)، مكتبة المعارف – الرياض، ط5.

5 رواه أبو داود برقم (4681) تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر؛ والطبراني في المعجم الكبير برقم (7613) للطبراني، تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي، مكتبة العلوم والحكم – الموصل، ط2، سنة النشر: 1404هـ- 1983م؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (380) للألباني، مكتبة المعارف – الرياض.