بناء الأجيال

بناء الأجيال

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الكريم وآله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام ليكونوا جيلاً فريداً في تاريخ البشرية حاضره وماضيه.

لقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة أمةً لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً، فكانوا قوماً أهل جاهلية يعبدون الأصنام، ويأكلون الميتة، ويأتون الفواحش، ويقطعون الأرحام، ويسيئون الجوار، ويأكل القوي منهم الضعيف؛ فدعاهم إلى الله ليوحدوه ويعبدوه، ويخلعوا ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرهم بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهاهم عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرهم أن يعبدوا الله وحده لا يشركوا به شيئاً، وأمرهم بالصلاة والزكاة، والصيام، فصدقوه وآمنوا به، واتبعوه على ما جاء به، وعبدوا الله وحده فلم يشركوا به شيئاً، وحرموا ما حرم عليهم، وأحلُّوا ما أحل لهم، فكانوا هم الجيل الصادق الفريد الذي عجزت أمهات الدنيا أن يلدن مثله.

ولو تأملنا سيرته عليه الصلاة والسلام، وكيف ربى أصحابه، لوجدناه قد غيَّر فيهم كل شيء تقريباً من أمور حياتهم؛ فهو يهذب كلامهم وتعبيرهم ويختار ألفاظهم مع أهليهم وسائر الناس، وهو كذلك يهذب لباسهم فيختار أشياء ويترك أشياء، وحتى طريقة لبسهم لثيابهم فإن له فيها تعديل وتهذيب، والأمر كذلك في معاملاتهم الاجتماعية الأسرية والقبلية والمالية، فقد هذب مشاعرهم عند الحزن والغضب، والفرح والهم والغم…، ونظر إلى أعيادهم وأعرافهم، وأيامهم وحياتهم؛ فوضع بصماته البيضاء، ولمساته النبوية؛ لتضيء الدنيا بأنفاسهم، وتشرق الأرض بنور تعاملهم، وتسطع شمس دولتهم على جبال النفوس، وأودية العقول؛ فتجمع سحب العدالة، وغمائم الرحمات، وما هطلت أمطار أقضيتهم، ولا سالت سيول أحكامهم؛ إلا وقعت على أراضي القلوب، فأصبحت راضية مرضية، وأثمرت علماء الأمة، وحكماء الزمان، وأحلام الدهر جيلاً بعد جيل.. حتى تراهم كما قال القائل:

"من تلقَ منهمْ تقلْ: لاقيتُ سيدَهمْ"

وهم والله بشر أمثالنا.

وها نحن اليوم نسمع أهل التدريب البشري يقولون: اسلك طريق الناجحين تنجح كما نجحوا، ونحن نقول: إننا إن احتذينا حذوهم، وسلكنا مسلكهم؛ بنينا جيلاً رائداً في عصرنا الذي انتشر فيه الظلم والظلام.

مقومات بناء جيل جديد:

ولو شئنا أن نبني جيلاً نقياً صادقاً جاداً لاحتجنا إلى نفس المقومات التي أسس عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيان جيله، ووطد أركانه عليها، فلا بد إذن من التربية على:

       التعلق بالله تعالى، وتوحيد عبادته، والاعتماد عليه، والركون إليه، ورجاء ما لديه.

       والتربية على معالم الحب للرسول صلى الله عليه وسلم من الاتباع والتأسي ظاهراً وباطناً.

   وتربية النفوس على إجادة التعبد لله، والشوق إلى الطاعات، والتلذذ بالعبادات حتى تحيا النفوس بلا ملال للوصول إلى حال "أرحنا بها يا بلال".

   إحسان الخُلُقِ مع الخالق والمخلوق، وإحياء معاني الأخلاق النبيلة السامية كالإيثار والصبر، والمحبة والإحسان، والشفقة والكرم، والأمانة والصدق، والوفاء والتواضع والبذل… إلخ.

   التزود من العلم الشرعي من أحكام ومقاصد، وقواعد وفهوم، وعلوم وكل ما يخدم ديننا ودنيانا من العلوم الحديثة كالإدارة، وجديد التجارة والهندسة، مع الانتفاع بالوسائل الحديثة في عالم الحاسوب والآلات، والمعدات والمكائن، والأجهزة النافعة… إلخ، وتسخير ذلك كله لخدمة الدين.

       التربية على العمل في التبليغ عن الله، وتوصيل الدين إلى كل بيت مدر وحجر، والدعوة إلى الله على بصيرة، وإبانة الحق لأهله وشانئيه.

   التربية على فهم الواقع، وإدراك الحال كما هو، وفهم أوضاع الأمة داخلياً وخارجياً ليكون الفرد منا مدركاً لأبعاد دعوته وتعامله، وخبيراً بما يؤول إليه الحال.

   تربية الجيل على الفهم العميق لمراحل الضعف التي تمر بها الأمة، ومراحل التمكين، وصفات جيل التمكين {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}(الحج:41)، والعمل على تحقيق ذلك؛ لتظهر ملامح النصر ومعالم التمكين.

   التربية على معرفة السنن الربانية في نشأة الدول وسقوطها، وقراءة التاريخ أمر من الأهمية بمكان، يعين على تقصي الأسباب والوسائل المادية والمعنوية الموصلة إلى الهدف المنشود.

       إذكاء روح الغيرة على الدين، وتعظيم حرمات الله، وتنزيه الشريعة، وأن يجعل الشاب المسلم في قلبه الحمية حمية الإسلام.

   إذكاء روح الجهاد في سبيل الله، وفهمه وفقهه بما فيه من أحكام وضوابط، ومسائل عامة وخاصة، ليبقى العقل آخذًا بزمام العاطفة، والشرع من وراء ذلك مدير.

   وتأتي ضرورة التربية على فقه التعامل مع العلماء والحكام، والعامة والمخالفين في الرأي وأهل البدع، والمخالفين في الدين المحاربين والمسالمين، والخطر المحدق بالأمة.

   التربي على فقه المنهج وأساليب التربية، والتدريب والتأهيل على العمل التربوي والدعوي والحركي، وإدراك ذلك كله نظرياً وتطبيقياً حتى لا يبقى النصر رهين الآمال.

   وفي الأخير (وربما كان أولى في التقديم ذكراً) فقه الأولويات، فإنها من أولويات ما يتربى عليه الجيل؛ حتى لا تختلط الأوراق، وتؤتى الأمة من قبل أبنائها، وفلذات أكبادها.

نسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، والحمد لله رب العالمين.