حقوق الأبناء على آبائهم

 

 

حقوق الأبناء على آبائهم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد:

“الأبناء هم ثمرة العلاقة الزوجية، وزينة الحياة، وجمال الأسرة، وبذرة الامتداد والبقاء النوعي للإنسان، والهدف الأساسي للزواج وخلود الحياة، لذلك جعل الله سبحانه وتعالى غريزة الأمومة والأبوة هي أقوى الغرائز وأشدّها تأثيراً في حياة الإنسان بعد غريزة حبّ الحياة؛ لارتباط غريزة الأبوة بحبّ الخلود والبقاء في نفس الإنسان، فالأبناء يمثلون امتداداً وجوديّاً بالنسبة للآباء يخلف وجودهم، ويحفظ بقاءهم، وتعبيراً عن هذه الغريزة الطبيعية، وترجمة لهذا الإحساس الإنساني الفطري؛ جاء التشريع الإسلامي بقوانينه وقيمه المنظمة للزواج والعلاقة الأبوية، وتحديد مسؤولية الآباء، وعلاقتهم بأبنائهم”1.

والأولاد رعية استرعى الله عليها الوالدين، وأوجب عليهما القيام بحقوقهم، والنظر في شؤونهم؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته)) رواه البخاري برقم (853)، وجعل الله للأبناء على آبائهم حقوقاً كما جعل للآباء على أبنائهم حقوقاً فقال النبي  : ((وإن لولدك عليك حقاً)) رواه مسلم برقم (1159)،ومن جملة تلك الحقوق التي على الأبوين لأولادهم:

 اختيار الزوجة الصالحة المتدينة لتكون أماً صالحة نافعة لتربية الأبناء: فالأم هي المدرسة الأولى التي يتلقى الابن فيها كثيراً من معارف الحياة، ولها دور كبير في تنشئة الأجيال النشأة السليمة، ولذلك حثَّ النبي   على اختيار المرأة صاحبة الدين والخلق فيما رواه أبو هريرة   عن النبي  قال: ((تُنكَح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها،وجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك)) رواه البخاري برقم (4802)،ومسلم برقم (1466).

 اختيار الاسم المناسب للأبناء: فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله  : ((إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن)) رواه مسلم برقم (2132)، ولأن الاسم تعريف بحقيقة الشيء المسمى كان لا بد من اختيار الاسم المناسب، فيلزم الأبوين أن يبتعدا عن اختيار الأسماء المحرمة كالتعبيد لغير الله، والتسمية بملك الأملاك،وشاهنشاه، أو التسمي بأسماء الشياطين وغير ذلك، وتأمل ما رواه الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد “أن عمر بن الخطاب  قال لرجل: ما اسمك؟ قال: جمرة، قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب، قال: ممن؟ قال: من الحرقة، قال: أين مسكنك؟ قال:بحرَّة النَّار، قال: بأيتها؟ قال: بذات لظى، قال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا؛ فكان كما قال عمر2.

 والتعليم حق من حقوق الأبناء على أبويهم: فإن تعليم الأبناء القراءة والكتابة يسهل عليهم الخوض في مضمار العلم، والاستزادة منه، ولذلك اهتم السلف بتربية أبنائهم وتعليمهم القراءة والكتابة ابتداءً، وأهم ما ينبغي تعليمه للأبناء هو كتاب الله عز​​​​​​​ ، وكذا تعريفهم بسيرة النبي   وسنته، وسيرة أصحابه رضوان الله عليهم ليسيروا على منوالهم، ويقتدوا بسلفهم من العلماء والدعاة، ثم تعليمهم أصول الدين، وأحكام الحلال والحرام قال ابن قدامة: “فإذا بلغ الصبي فأول واجب عليه تعلم كلمتي الشهادة، وفهم معناهما”، ثم قال: “وينبغي أن يتعلم الإيمان بالبعث، والجنة،والنار…”3،

قال ابن القيم رحمه الله: “فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى؛ فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبت إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً”4.

ومما يؤيد ما ذكرناه سابقاً على أهمية الأمور الثلاثة السابقة ما ورد أن رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر الولد، وأنَّبه على عقوقه لأبيه فقال الابن: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب (القرآن)، فقال الابن: يا أمير المؤمنين إنه لم يفعل شيئاً من ذلك: أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي، وقد سماني جُعْلاً، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً، فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: أجئت إليَّ تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك”.

فالأمور الثلاثة التي وردت في هذه القصة: أن ينتقي أمه، وأن يحسن اسمه، وأن يعلِّمه القرآن؛ هي حقوق من حقوق الأبناء على آبائهم، فإذا ما أهمل الوالدين هذه الأشياء فإنهما يكونان قد عَقَّا أبناءهم قبل أن يعقَّهم أبناؤهم، وأساءوا إليهم قبل أن يُسئ الأبناء إلى والديهم.

 ومن حقوق الأولاد العدل بينهم في العطاء والمنع: ففي السنن ومسند أحمد من حديث النعمان بن بشير   قال: قال رسول الله  : ((اعدلوا بين أبنائكم))5، قال ابن القيم رحمه الله: “ومن العجب أن يحمل قوله “اعدلوا بين أولادكم” على غير الوجوب، وهو أمر مطلق، مؤكد ثلاث مرات، وقد أخبر الآمر به أن خلافه جور، وأنه لا يصلح، وأنه ليس بحق؛ وما بعد الحق إلا الباطل، هذا والعدل واجب في كل حال، فلو كان الأمر به مطلقاً لوجب حمله على الوجوب”6.

 ومن الحقوق المهمة أيضاً مصاحبته، وغرس الفضيلة، والثقة في نفسه: فلا يكون مسلوب الإرادة، والهمة، والمكانة، وكثير من الآباء يخطئون في هذا الجانب،فيربون أبناءهم بالسوط والقسر، والقوة والعنف؛ فينشأ الابن وقد سُلبت إرادته وقوته ومكانته، مهزوز الإرادة، لا كلمة له، ليعيش بعد ذلك بشخصية ضعيفة غير سوية؛ إذ العنف لا يورث إلا عنفاً، وهذا خلاف لوصف ربنا سبحانه وتعالى لرسوله   بالحكمة واللين حيث قال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}(آل عمران:159)، ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4)، ويوم أن ساءت التربية في كثير من البيوت؛

نشأ الطفل على أحد وجهين: إما عاق لأبيه، مكابر، شاق للعصا، قاطع للحبل بينه وبين أبيه؛ بسبب العنف والجفاء والتسلط الذي ما أنزل الله به من سلطان، أو أن يكون ذليلاً مخبتاً، لا مكانة له، ولا شجاعة، ولا إرادة، وهذا خطأ يقع فيه كثير من الآباء.

والذي نحب أن نؤكد عليه عموماً هو أنه كما أن للوالدين حقوقاً على أولادهم؛ فإن للأولاد حقوق على والديهم، ومن أحب أن يحصد فعليه أن يزرع، فلنتق الله في أولادنا فإنهم فلذات أكبادنا، وثمرة حياتنا، وعماد المستقبل المشرق بإذن الله.

هدانا الله وإياكم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


 


1 نقلاً من موقع (http://www.balagh.com/matboat/osrh/31/r50xn89b.htm) بتصرف.

2 موطأ الإمام مالك برقم (1753).

3 منهاج القاصدين (1/6-7).

4 تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم الجوزية (1/229).

5 سنن النسائي برقم (3687)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1046).

6 تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم الجوزية (1/228).