أبو هريرة رضي الله عنه

أبو هريرة رضي الله عنه

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الأمين, وعلى آله وصحبه أجمعين, وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, أما بعد:

نقف مع علم من أعلام الحديث النبوي الشريف ممن لهم الفضل والشرف في نشر سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, إنه الصحابي الجليل أبو هريرة -رضي الله عنه- فمن أبو هريرة وما سيرته؟

اسمه ونسبه:

هو أبو هريرة الدوسي، عبد الرحمن بن صخر, الإمام الفقيه المجتهد الحافظ صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو هريرة الدوسي اليماني، سيد الحفاظ الأثبات, اختلف في اسمه على أقوال جمة، أرجحها أنه: عبد الرحمن بن صخر, ويقال: كان في الجاهلية اسمه عبد شمس، أبو الأسود، فسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: عبد الله وكناه أبا هريرة, حمل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، لم يلحق في كثرته.

مقتطفات من سيرته:

شهد أبو هريرة -رضي الله عنه- خيبر، ووادي القرى، وعمرة القضاء، وغزوة ذات الرقاع، وغزوة نجد، وإجلاء اليهود، وفتح مكة، وحنين، وحصار الطائف بعد حنين، وتبوك، ومؤتة، وحروب الردة،

واليرموك، وأرمينية، وكان مع عثمان بن عفان في الحصار.

كان أجيرًا لبسرة الصحابية المشهورة أخت الصحابي المشهور عتبة بن غزوان المازني، فتزوجها, وقال: الحمد لله الذي جعل الدين قواماً, وجعل أبا هريرة إماماً, وقال -رضي الله عنه-: "أكريت نفسي من ابنة غزوان على طعام بطني وعقبة رجلي، قال: فكانت تكلفني أن أركب قائماً وأن أدري أو أورد حافياً، فلما كان بعد ذلك زوجنيها الله فكلفتها أن تركب قائمة وأن ترد أو تردي حافية."1.

كان عديلاً لعثمان بن عفان الذي تزوج فاختة، وكان له من الأبناء أربعة وبنتًا، أشهرهم المحرر، توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز، روى عن أبيه وكان قليل الحديث، ومُحرز ذكره البخاري في التاريخ الكبير، وعبد الرحمن وبلال، أما ابنته فتزوجها سعيد بن المسيب التابعي الجليل، اعتنى بالقرآن وحفظه ثم صار معلمًا, فقرأ عليه أبو جعفر يزيد بن القعقاع المخزومي أحد القراء العشرة الأئمة وعبد الرحمن بن هرمز.

كان متواضعًا فهو الذي يقول لابن عباس -رضي الله عنهما- وهو أصغر منه: أنت خير مني وأعلم، ثَبْتٌ في الفتوى.

وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- كريمًا؛ أعتق العبيد، وأحسن لمواليه، وكفل الأيتام، وأعتق الأغر بن سليك أبا مسلم المدني, بالاشتراك مع أبي سعيد الخدري، كفل معاوية بن معتب الهذلي، وكان في حجره وعلمه مما يعلم فصار إمامًا ومحدثًا، وربى أولاده تربية علمية جعل من الرواة من يحتاجون إليهم ويروون عن أحدهم وهو محرر ابنه ما فاتهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه كالشعبي والزهري2.

لماذا سمي بأبي هريرة:

المشهور عنه: أنه كني بأولاد هرة برية, قال: وجدتها، فأخذتها في كمي، فكنيت بذلك, وروي أن أبا هريرة -رضي الله عنه- كان يقول: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوني: أبا هر.

وقيل لأبي هريرة: لم كنوك أبا هريرة؟ قال: أما تفرق مني؟ قال: بلى، إني لأهابك, قال: كنت أرعى غنماً لأهلي، فكانت لي هريرة ألعب بها، فكنوني بها.

هجرته الى المدينة:

لما هاجر كان معه مملوك له، فهرب منه, فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر، وقدمت المدينة مهاجراً، فصليت الصبح خلف سباع بن عرفطة، كان استخلفه، فقرأ في السجدة الأولى: بسورة مريم، وفي الآخرة: ويل للمطففين, فقلت: ويل لأبي، قل رجل كان بأرض الأزد إلا وكان له مكيالان، مكيال لنفسه، وآخر يبخس به الناس, وصحب رسول الله أربع سنين.

فقره رضى الله عنه ورقة حاله:

لقد جاع أبو هريرة -رضي الله عنه- واحتاج، ولزم المسجد, قال أبو هريرة: لقد رأيتني أصرع بين القبر والمنبر من الجوع، حتى يقولوا: مجنون.

وقال: لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منزل عائشة والمنبر مغشياً عليَّ من الجوع، فيمر الرجل، فيجلس على صدري، فأرفع رأسي، فأقول: ليس الذي ترى، إنما هو الجوع, وكان يظنه من يراه مصروعاً، فيجلس فوقه ليرقيه، أو نحو ذلك.

وقال: والله إن كنت لأعتمد على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت على طريقهم، فمر بي أبو بكر، فسألته عن آية في كتاب الله، ما أسأله إلا ليستتبعني، فمر ولم يفعل، فمر عمر، فكذلك، حتى مر بي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعرف ما في وجهي من الجوع، فقال: (أبو هريرة). قلت: لبيك يا رسول الله, فدخلت معه البيت، فوجد لبناً في قدح، فقال: (من أين لكم هذا؟). قيل: أرسل به إليك فلان, فقال: (يا أبا هريرة، انطلق إلى أهل الصفة، فادعهم).

وكان أهل الصفة أضياف الإسلام، لا أهل ولا مال، إذا أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدقة، أرسل بها إليهم، ولم يصب منها شيئاً، وإذا جاءته هدية أصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني إرساله إياي، فقلت: كنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، وما هذا اللبن في أهل الصفة؟! ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد، فأتيتهم، فأقبلوا مجيبين, فلما جلسوا، قال: (خذ يا أبا هريرة، فأعطهم). فجعلت أعطي الرجل، فيشرب حتى يروى، حتى أتيت على جميعهم، وناولته رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرفع رأسه إلي متبسماً، وقال: (بقيت أنا وأنت). قلت: صدقت يا رسول الله, قال: (فاشرب), فشربت، فقال: (اشرب), فشربت، فما زال يقول: (اشرب)، فأشرب، حتى قلت: والذي بعثك بالحق، ما أجد له مساغاً, فأخذ فشرب من الفضلة3.

حب المؤمنين لأبي هريرة:

ثبت أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: والله ما خلق الله مؤمناً يسمع بي إلا أحبني, قيل: وما علمك بذلك؟ قال: إن أمي كانت مشركة، وكنت أدعوها إلى الإسلام، وكانت تأبى علي، فدعوتها يوماً، فأسمعتني في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أكره، فأتيت رسول الله وأنا أبكي، فأخبرته، وسألته أن يدعو لها, فقال: (اللهم اهد أم أبي هريرة). فخرجت أعدوا أبشرها، فأتيت، فإذا الباب مجاف، وسمعت خضخضة الماء، وسمعت حسي، فقالت: كما أنت، ثم فتحت، وقد لبست درعها، وعجلت عن خمارها، فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله, قال: فرجعت إلى رسول الله أبكي من الفرح، كما بكيت من الحزن، فأخبرته، وقلت: ادع الله أن يحببني وأمي إلى عباده المؤمنين, فقال: (اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما) قال: فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني4.

لماذا كان أكثر رواية للحديث:

لقد كان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة, فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟). قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله, قال: فنزع نمرة كانت على ظهري، فبسطها بيني وبينه، حتى كأني أنظر إلى النمل يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعبت حديثه، قال: (اجمعها، فصرها إليك). فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني5.

وعنه قال: إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثله؟ وإن إخواني المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأً مسكينا من مساكين الصفة، ألزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ملء بطني، فأحضر حين يغيبون، وأعي حين ينسون، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث يحدثه يوماً: (إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي جميع مقالتي، ثم يجمع إليه ثوبه، إلا وعى ما أقول), فبسطت نمرة علي، حتى إذا قضى مقالته، جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك من شيء6.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: (لقد ظننت يا أبا هريرة لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله، خالصا من نفسه)7.

ولايته للمدينة:

روي أن عمر -رضي الله عنه- قال لأبي هريرة: كيف وجدت الإمارة؟ قال: بعثتني وأنا كاره، ونزعتني وقد أحببتها. وأتاه بأربعمائة ألف من البحرين، فقال: ما جئت به لنفسك؟ قال: عشرين ألفاً.

قال: من أين أصبتها؟ قال: كنت أتجر, قال: انظر رأس مالك ورزقك فخذه، واجعل الآخر في بيت المال.

وكان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة، فيركب حماراً ببرذعة، وفي رأسه خلبة من ليف، فيسير، فيلقى الرجل، فيقول: الطريق! قد جاء الأمير.

وربما أتى الصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب، فلا يشعرون حتى يلقي نفسه بينهم، ويضرب برجليه، فيفزع الصبيان, وأقبل أبو هريرة في السوق يحمل حزمة حطب، وهو يومئذ خليفة لمروان، فقال: أوسع الطريق للأمير.

وفاتـه:

روي أن أبا هريرة بكى في مرضه، فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن على بعد سفري، وقلة زادي، وأني أمسيت في صعود، ومهبطه على جنة أو نار، فلا أدري أيهما يؤخذ بي!!

وقد دخل مروان على أبي هريرة في شكواه، فقال: شفاك الله يا أبا هريرة, فقال: اللهم إني أحب لقاءك، فأحب لقائي, قال: فما بلغ مروان أصحاب القطا حتى مات أبو هريرة -رضي الله عنه-8.

صحابي جليل وإن رغمت أنوف:

أبو هريرة رضي الله عنه صاحب الرسول الكريم، وقرة عين المسلمين الذي حرص على العلم فناله وعمل بالعلم فحفظه, وهو حبيب كل مؤمن صادق، وكيد المجرمين والزنادقة الملحدين، وغصة في حلوق المنافقين وكل عدو للدين من الجهمية الذين نفوا صفات رب العالمين، والخوارج الذين مرقوا من الدين، والقدرية الذين اعتزلوا الإسلام وأهله وردوا أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- في القدر، والمعتزلة منهم وعلى رأسهم النَّظَّام الذي نفي معجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وطعن في القرآن بعد أن هدم سنة خير الأنام.

فمن هؤلاء الأقزام الذين لا يعرفون من الدين إلا رسمه، ومن القرآن إلا اسمه، جهلة بدين الله، يقولون على الله وفي الله بغير علم، ويحكمون عقولهم في نصوص القرآن الكريم، وهدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- أهل الأهواء والبدع يقض مضاجعهم الدين وتقلقهم سنة الصادق الأمين، فيسبون الصحابة الكرام؛ الذين أثنى عليهم رب الأنام في محكم القرآن الكريم وشهد لهم خير البرية بأنهم خير الناس.

اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك, وحب كل عمل صالح يقربنا إلى حبك, واحشرنا في زمرة أصحاب نبيك إلى الفردوس الأعلى, مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وحسن أولئك رفيقاً, وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, والحمد لله رب العالمين.


 


1 الطبقات الكبرى لابن سعد (ج 4 / ص 326).

2  مستفاد من مجلة التوحيد العدد 64 يونيو 2007م.

3 رواه أحمد في المسند برقم (10263) (ج 21 / ص 307) وهو حديث صحيح.

4 رواه مسلم (4546) (ج 12 / ص 286).

5 قال أبو نعيم في كتابه معرفة الصحابة (ج 13 / ص 332) رواه المقبري والحسن وأبو الربيع نحوه.

6 رواه البخاري (1906) (ج 7 / ص 197).

7 رواه البخاري (97) (ج 1 / ص 174).