إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها

إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها

 

الهدى النبوي خير هدي، من عمل به، وتمسك بحبله، ومشى في دربه، واتبع خطواته؛ نال خيراً كثيراً، وربح ربحاً عظيماً، ولم لا وهو هدي من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، هَدي من بذل حياته من أجل أمته، هدي من صفته كما قال الله تعالى في كتابه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة:128)، إنه هدي الصادق الأمين محمد صلى الله عليه وسلم.

ونعيش اليوم مع نفحة من نفحاته، وزهرة من ثمار بساتينه، ونسمة من طيب عبيره، مع حديث عظيم من أحاديثه صلى الله عليه وسلم، رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل))1، جاء في فيض القدير: "(إن قامت الساعة) أي القيامة، سميت به: لوقوعها بغتة، أو لسرعة حسابها، أو لطولها، فهو تلميح كما يقال في الأسود كافوراً، ولأنها عند الله تعالى على طولها كساعة من الساعات عند الخلائق (وفي يد أحدكم) أيها الآدميون (فسيلة) أي نخلة صغيرة، إذ الفسيل صغار النخل، وهي الودي (فإن استطاع أن لا يقوم) من محله أي الذي هو جالس فيه (حتى يغرسها فليغرسها) ندباً، قد خفي معنى هذا الحديث على أئمة أعلام منهم ابن بزيزة فقال: الله أعلم ما الحكمة في ذلك انتهى، قال الهيثمي: ولعله أراد بقيام الساعة أمارتها…"2.

إن هذا الحديث يعلمنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم دروساً عظيمة من أعظمها الإيجابية في حياة المسلم، إذ لابد أن يكون المسلم إيجابياً يشارك في هذه الحياة بكل ما يستطيع، وبقدر ما يمكنه، ولو كان ذلك في آخر لحظات الحياة، ومثال ذلك ما جاء في قصة الغلام الذي كان سبباً في إسلام أمَّة بما يحمل من إيجابية، وبذل كل ما يستطيع حتى بذل روحه التي بين جنبيه، جاءت قصته في صحيح مسلم عن صهيب الرومي رضي الله عنه، وفيها أن الغلام قال للملك بعد أن فشلت عدة محاولات من قِبَلِ الملك لقتل الغلام: ((إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخُدَّت، وأضرم النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق)) رواه مسلم (5327).

وذكر صاحب كتاب صناعة الحياة قصة تذكِّر بالإيجابية حتى اللحظة الأخيرة يقول فيها: "إن أحد دعاة الإسلام في إحدى البلاد حُكِمَ عليه بالإعدام، وأرادوا أن يقتلوه شنقاً، وخرجوا به في الساحة العامة في وسط البلد، ووضعوا مشنقة وحبلاً، ثم أرادوا أن يخنقوه ويشنقوه، يقول: فلما شدوا الحبل وهو معلق، انقطع الحبل، وسقط الرَّجُلُ، فقام الرجل واقفاً يتلفت ماذا يقول؟ يقول لهم: كل جاهليتكم رديئة، حتى حبالكم رديئة، كل الجاهلية التي أنتم فيها رديئة.

استغل الدقائق الأخيرة التي منحه الله تعالى إياها في هجاء الجاهلية والكفر الذي كان يوجد في ذلك البلد، ولم يقل: هذه أمور انتهت، بل عمل واستغل ذلك الوقت"3

فلينطلق كل فرد حسب طاقته  يـدعو إلى الله إخفاء وإعلاناً

ولنترك اللوم لا نجعله عـدتنا   ولنجعل الفعل بعد اليوم ميزاناً

إن العمل لهذا الدين، وتجاوز الأنانية ومفهوم الفردية في حياتنا هو الكفيل بإعادة ترتيب الحياة على وجه أفضل، وفي ديننا الحنيف نصوص تدعو إلى العمل، والمشاركة في هذه الحياة عموماً حتى تصل هذه المشاركة في آخر أيام الدنيا كما في الحديث، الأيام التي لا يُنتَظَر فيها ثمار ما يزرعه أو يشارك به كما قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}(آل عمران:133)، {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(البقرة:148)، {يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}(آل عمران:114).

كل هذه النصوص تدعو إلى الإيجابية، والمسارعة إلى أعمال الخير التي يحبها الله جل في علاه.

فمن استطاع أن يميط شوكة من الطريق فليمطها، ومن استطاع أن يبذر حبة فليبذرها، ومن كان عنده علم دعا به، ومن كان عنده مال دعا به، والمسؤولية هي على الجميع، كل بحسبه فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها، وتصديق موعودها؛ إلا أدخله الله بها الجنة)) قال حسان: فعددنا ما دون منيحة العنز من ردِّ السلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق، ونحوه، فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة" رواه البخاري (2438).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) رواه مسلم (51)، وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس))

ومن أجلِّ أعمال المسلم قيامه بالدعوة إلى الله بياناً باللسان، وجهاداً باليد، ونفقة من العلم والمال والوقت، فكل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام، أياً كان تخصصه ومستواه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}}(البقرة:286).

لعمري لئن لم يدرك الأمر أهلـه         شباب بسيف العصر دوماً مدججٌ

وشيب بمحراب الرسول قلوبهـم         وألبـابهم في موكب العلم هودج

فإن الرحى لن يخطئ الحبّ طحنها        ولله نـــاموس من العدل أبلج

ومما يستفاد من هذا الحديث العظيم أننا لابد أن نعلم أن العمل لا ينقطع أبداً حتى تقوم الساعة، بل لابد من الاستمرار والمواصلة، {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(التوبة:105)، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(الحجر:99)، ويقول تعالى وهو يذم من ترك العمل بعد أن كان مثابراً وعاملاً: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا}((اعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ)) رواه مسلم (5043)، وقد تعوَّذ النبي صلى الله عليه وسلم من العجز فعن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)) رواه البخاري (5890) بلفظه، ومسلم (4878)، يقول محمد قطب حفظه الله: "وجَّه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم، والأمة من ورائهم؛ إلى الدأب والمثابرة، ولو بدت الثمرة بعيدة المنال، …، وحثَّهم على مداومة العمل ولو بالقليل دون انقطاع، وكان دائم الاستعاذة من العجز والكسل"4.

ومن هذا الحديث نعلم مكانة الزرع وقيمته في الإسلام، وأن الزارع مأجور إذا احتسب ما يفعله عند الله تعالى فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً؛ فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة إلا كان له به صدقة)) رواه البخاري (2152)، وعند مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة)) رواه مسلم (2900) جاء في فيض القدير: "والحاصل أنه مبالغة في الحث على غرس الأشجار، وحفر الأنهار؛ لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعت به؛ فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع، وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة، وذلك بهذا القصد لا ينافي الزهد والتقلل من الدنيا، وفي الكشاف كان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار، وغرس الأشجار، وعمروا الأعمار الطوال مع ما فيهم من عسف الرعايا، فسأل بعض أنبيائهم ربه عن سبب تعميرهم؛ فأوحى الله إليه أنهم عمروا بلادي؛ فعاش فيها عبادي، وأخذ معاوية في إحياء أرض وغرس نخل في آخر عمره؛ فقيل له فيه، فقال: ما غرسته طمعاً في إدراكه؛ بل حملني عليه قول الأسدي:

ليس الفتى بفتى لا يستضاء به    ولا يكون له في الأرض آثار

ومن أمثالهم: أمارة إدبار الأمارة كثرة الوباء، وقلَّة العمارة، وحُكي أن كسرى خرج يوماً يتصيد فوجد شيخاً كبيراً يغرس شجر الزيتون، فوقف عليه وقال له: يا هذا أنت شيخ هرم؛ والزيتون لا يثمر إلا بعد ثلاثين سنة، فلم تغرسه، فقال: أيها الملك زرع لنا من قبلنا فأكلنا، فنحن نزرع لمن بعدنا فيأكل، فقال له كسرى: زه، وكانت عادة ملوك الفرس إذا قال الملك منهم هذه اللفظة أعطى ألف دينار، فأعطاها الرجل فقال له: أيها الملك شجر الزيتون لا يثمر إلا في نحو ثلاثين سنة، وهذه الزيتونة قد أثمرت في وقت غراسها، فقال كسرى: زه، فأعطى ألف دينار، فقال له: أيها الملك شجر الزيتون لا يثمر إلا في العام مرة، وهذه قد أثمرت في وقت واحد مرتين، فقال له: زه، فأعطى ألف دينار أخرى، وساق جواده مسرعاً، وقال: إن أطلنا الوقوف عنده نفد ما في خزائننا"55.

بل ذكر بعضهم أن الزراعة والاشتغال بها من أفضل المكاسب التي يشتغل بها المرء جاء في عمدة القاري: "ذكر ما يستفاد منه (أي الحديث) فيه فضل الغرس والزرع، واستدل به بعضهم على أن الزراعة أفضل المكاسب، واختلف في أفضل المكاسب، فقال النووي: أفضلها الزراعة، وقيل: أفضلها الكسب باليد، وهي الصنعة، وقيل: أفضلها التجارة، وأكثر الأحاديث تدل على أفضلية الكسب باليد وروى الحاكم في المستدرك من حديث أبي بردة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الكسب أطيب؟ قال: ((عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور))6، وقال هذا حديث صحيح الإسناد، وقد يقال هذا أطيب من حيث الحل، وذاك أفضل من حيث الانتفاع العام فهو نفع متعد إلى غيره، وإذا كان كذلك فينبغي أن يختلف الحال في ذلك باختلاف حاجة الناس، فحيث كان الناس محتاجين إلى الأقوات أكثر كانت الزراعة أفضل للتوسعة على الناس، وحيث كانوا محتاجين إلى المتجر لانقطاع الطرق كانت التجارة أفضل، وحيث كانوا محتاجين إلى الصنائع أشد كانت الصنعة أفضل، وهذا حسن"7.

ومن الأمور التي لابد أن يتعلمها المسلم من هذا الحديث أن الأرض والسماء حسبة واحدة لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالدنيا هي الطريق إلى الآخرة يقول محمد قطب: "وأدرك المسلمون كذلك من مفهوم الإِسلام أن الأرض والسماء حسبة واحدة!

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر))8، وأول ما يخطر على البال من هذا الحديث هو هذه العجيبة التي يتميز بها الإِسلام: أن طريق الآخرة هو طريق الدنيا بلا اختلاف ولا افتراق!

إنهما ليسا طريقين منفصلين: أحدهما للدنيا، والآخر للآخرة، وإنما هو طريق واحد يشمل هذه وتلك، ويربط ما بين هذه وتلك، ليس هناك طريق للآخرة اسمه العبادة، وطريق للدنيا اسمه العمل، وإنما هو طريق واحد أوله في الدنيا وآخره في الآخرة، وهو طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة، ولا العبادة عن العمل، كلاهما شيء واحد في نظر الإِسلام، وكلاهما مختلطان ممتزجان، وكلاهما يسير جنباً إلى جنب في هذا الطريق الواحد الذي لا طريق سواه.

العمل إلى آخر لحظة من لحظات العمر، إلى آخر خطوة من خطوات الحياة، يغرس الفسيلة، والقيامة تقوم هذه اللحظة عن يقين!

وتوكيد قيمة العمل، وإبرازه، والحض عليه؛ فكرة واضحة شديدة الوضوح في مفهوم الإِسلام، ولكن الذي يلفت النظر هنا ليس تقدير قيمة العمل فحسب؛ وإنما هو إبرازه على أنه الطريق إلى الآخرة الذي لا طريق سواه.

وقد مرَّت على البشرية فترات طويلة في الماضي والحاضر كانت تحس فيها بالفُرقة بين الطريقين، كانت تعتقد أن العمل للآخرة يقتضي الانقطاع عن الدنيا، والعمل للدنيا يزحم وقت الآخرة، وكانت هذه الفرقة بين الدنيا والآخرة عميقة الجذور في نفس البشرية، لا تقف عند هذا المظهر وحده؛ وإنما تتعداه إلى مفاهيم أخرى تتصل بالكيان البشري في مجموعه.

فالدنيا والآخرة مفترقتان.

والجسم والروح مفترقان.

والمادي يفترق عن اللامادي.

والفيزيقا – بلغة الفلاسفة – تفترق عن الميتافيزيقا.

والحياة العملية تفترق عن الحياة المثالية أو عن مفاهيم الأخلاق.

والكيان النفسي بحكم فطرته التي فطره الله عليها  وحدة..

وحدة تشمل الجسم والعقل والروح، تشمل (المادة) و(اللامادة)، تشمل شهوات الجسد، ورغبات النفس، وتأملات العقل، وسبحات الروح، تشمل نزوات الحس الغليظة، وتأملات الفكر الطليقة، ورفرفات الروح الطائرة.

ولا شك أن جزئيات هذا الكيان متعارضة، وأن كلاً منها جانح في اتجاه؛ ذلك إذا تُرِكَت وشأنها، ينبت كل نابت منها على هواه!

ولكن العجيبة في هذا الكيان البشري عجيبة الفطرة التي فطره الله عليها، أن هذا الشتات النافر المنتثر يمكن أن يجتمع، يمكن أن يتوحد، يمكن أن يترابط، ثم يصبح – من عجب – في وحدته تلك وترابطه أكبر قوة على الأرض! ذلك حين تقبس الذرة الفانية من قوة الأزل الخالدة، فتشتعل وتتوهج، وتصبح طليقة كالنور، تمتزج فيها المادة واللامادة فهما سواء.

والطريق الأكبر لتوحيد هذا الشتات النافر المنتثر، وربطه كله في كيان هو توحيد الدنيا والآخرة في طريق.

عندئذ لا تتوزع الحياة عملاً وعبادة منفصلين، ولا تتوزع النفس جسماً وروحاً منفصلين، ولا تتوزع الأهداف عملية ونظرية، أو واقعية ومثالية لا تلتقيان.

حين يلتقي طريق الدنيا بطريق الآخرة، وينطبقان؛ فهما شيء واحد، يحدث مثل هذا في داخل النفس، فتقترب الأهداف المتعارضة، ويلتقي الشتات المتناثر، ثم ينطبق الجميع فهو شيء واحد، وتلتقي النفس المفردة – بكيانها الموحد – تلتقي بكيان الحياة الأكبر، وقد توحدت أهدافه، وارتبط شتاته، فتتلاقى معه، وتستريح إليه، وتنسجم في إطاره، وتسبح في فضائه كما يسبح الكوكب المفرد في فضاء الكون، لا يصطدم بغيره من الأفلاك، وإنما يربطها جميعاً قانون واحد شامل فسيح.

والإسلام يصنع هذه العجيبة، ويصنعها في سهولة ويسر..

يصنعها بتوحيد الدنيا والآخرة في نظام: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(القصص:77)، {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(الأعراف:32)، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم الترجمة الكاملة الصادقة للفكرة الإِسلامية، ومن ثم كانت الدنيا والآخرة في نفسه طريقاً واحداً، و(حسبة) واحدة"9.

إن هذا الحديث ليرسل لنا رسائل واضحة في عدم اليأس والقنوط، والتزام الفأل الحسن، فأنت تزرع الفسيلة ولن تثمر إلا بعد سنوات، لكننا نزرع، نبني الحياة ونعمرها، ولا نيأس من تأخر الثمرات، نفعل الخير ولا نقنط إن قوبلنا بالشر، فلا يقل أحدنا قد اقتربت الساعة فلا نعمل ولا نعلم، ولا نقرأ ولا نكتب، ولماذا تكدح؟ ولماذا؟ وهذا هو كلام اليائسين.

بل لابد أن يقدم المسلم كل ما يستطيع حتى آخر لحظة، ولا يحقر عمله أبداً، ولا يقل ستقوم الساعة، أو قامت الساعة، واغرس، ولا يقل: لمن أغرس؟ ومتى تثمر؟ ومن يأكل؟ {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(التغابن:16).

إن الأمة لن تنتصر إلا بالمعنويات العالية، والنفوس المتفائلة، والأرواح السامية قال صاحب كتاب (هل نحن مسلمون): "فلا يأس مع الحياة، والعمل في الأرض لا ينبغي أن ينقطع لحظة واحدة بسبب اليأس من النتيجة، فحتى حين تكون القيامة بعد لحظة، حين تنقطع الحياة الدنيا كلها، حين لا تكون هناك ثمرة من العمل؛ حتى عندئذ لا يكف الناس عن العمل، وعن التطلع للمستقبل، ومن كان في يده فسيلة فليغرسها، إنها دفعة عجيبة للعمل، والاستمرار فيه، والإصرار عليه!

لا شيء على الإطلاق يمكن أن يمنع من العمل!

كل المعوقات، كل الميئسات، كل المستحيلات، كلها لا وزن لها ولا حساب، ولا تمنع عن العمل.

وبمثل هذه الروح الجبارة تعمر الأرض حقاً، وتشيد فيها المدنيات والحضارات… يغرسوا الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة، فإنما عليهم أن يعملوا، وعلى الله تمام النجاح"10.

وفي هذا المقصد العظيم من هذا الحديث درس خاص للقائمين بالدعوة إلى الله – تعالى – بألا ييأسوا، ولا يقنطوا، بل يرموا البذور والله يتولى الصالحين، جاء في كتاب "قبسات من الرسول": "والدعاة خاصة لهم في هذا الحديث درس أي درس، فالدعاة هم أشد الناس تعرضاً لنوبات اليأس، وأشدهم حاجة إلى الثبات!

قد ييأس التاجر من الكسب، ولكن دفعة المال لا تلبث أن تدفعه مرة أخرى إلى السير في الطريق.

قد ييأس السياسي من النصر، ولكن تقلبات السياسة لا تلبث أن تفتح له منفذاً فيستغله لصالحه.

قد ييأس العالم من الوصول إلى النتيجة ولكن المثابرة على البحث والتدقيق كفيلة أن توصله إلى النهاية.

كل ألوان البشر المحترفين حرفة معرضون لليأس، وهم في حاجة إلى التشجيع الدائم، والحث الطويل، ولكنهم مع ذلك ليسوا كالدعاة في هذا الشأن، فأهدافهم غالباً ما تكون قريبة، وعوائقهم غالباً ما تكون قابلة للتذليل.

وليس كذلك المصلحون.

إنهم لا يتعاملون مع المادة ولكن مع (النفوس)، والنفوس أعصى من المادة، وأقدر على المقاومة وعلى الزيغ والانحراف.

والسم الذي يأكل قلوب الدعاة هو انصراف الناس عن دعوتهم، وعدم الإيمان بما فيها من الحق، بل مقاومتها في كثير من الأحيان بقدر ما فيها من الحق، وعصيانها بقدر ما فيها من الصلاح!

عندئذ ييأس الدعاة، ويتهاوون في الطريق.

إلا من قبست روحه قبسة من الأفق الأعلى المشرق الطليق، إلا من أطاقت روحه أن يغرس الفسيلة ولو كانت القيامة تقوم اللحظة عن يقين!

الدعاة أحوج الناس إلى هذا الدرس، أحوج الناس أن يتعلموا عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – هذا التوجيه العجيب الذي تتضمنه تلك الكلمات القليلة البسيطة الخالية من الزخرف والتنسيق.

هم أحوج الناس أن يقبسوا من قبسات الرسول هذه اللمحة المضيئة الكاشفة الدافعة الموحية، فتنير في قلوبهم ظلمة اليأس، وتغرس في نفوسهم نبتة الأمل، كما تغرس الفسيلة في الأرض لتثمر بعد حين.

إنه يقول لهم: ليس عليكم ثمرة الجهد، ولكن عليكم الجهد وحده، ابذلوه ولا تتطلعوا إلى نتائجه!

ابذلوه بإيمان كامل أن هذا واجبكم وهذه مهمتكم، وأن واجبكم ومهمتكم ينتهيان بكم هناك عند غرس الفسيلة في الأرض، لا في التقاط الثمار"11.

هذه بعض الإشارات إلى ما في هذا الحديث العظيم من الفوائد والدرر، والدروس والعبر، نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علماً وعملاً وتقوى وصلاحاً، والله أعلم، وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه أحمد (12512) واللفظ له، والبخاري في الأدب المفرد (1/168)، قال شعيب الأرنؤوط وآخرون: إسناده صحيح على شرط مسلم، انظر مسند الإمام أحمد بن حنبل (20/296) المحقق: شعيب الأرناؤوط وعادل مرشد وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبدالمحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط. الأولى (1421هـ-2001م).

2 فيض القدير شرح الجامع الصغير (3/30) لعبد الرؤوف المناوي، المكتبة التجارية الكبرى – مصر، ط. الأولى (1356هـ).

3 صناع الحياة (1/56) بتصرف يسير، لمحمد أحمد الراشد، إصدار دار الفكر.

4 كيف ندعو الناس.

5 فيض القدير (3/30).

6 المستدرك على الصحيحين برقم (2158) لمحمد بن عبدالله أبو عبدالله الحاكم النيسابوري، دار الكتب العلمية – بيروت (1411هـ-1990م) ط. الأولى، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، قال الألباني: صحيح لغيره، انظر صحيح الترغيب والترهيب (2/141)، مكتبة المعارف – الرياض، ط. الخامسة.

7 عمدة القاري شرح صحيح البخاري (12/155)، لبدر الدين محمود بن أحمد العيني، دار إحياء التراث العربي – بيروت.

8 الأدب المفرد (1/ 168) إلى كلمة (فليغرسها)، صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/38)، مكتبة المعارف – الرياض.

9 هل نحن مسلمون (1/25-27) لمحمد قطب.

10 قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم (12-13) لمحمد قطب.

11 قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم (13-14) لمحمد قطب.