القبر أول منازل الآخرة

القبر أول منازل الآخرة

 

الحمد الله أولاً وأخراً، ونصلي ونسلم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فقد جاء في الحديث الصحيح أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتبكي من هذا؟! فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه)، قال: وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (ما رأيت قط إلا القبر أفظع منه)1.

نعم القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن كان هذا المنزل أول أمره طيب فما بعده أطيب؛ لأن بعده الجنة، وإن كان أوله نكال وعذاب فما بعده أشد عذاباً ونكالاً؛ لأن بعده النار.

ولذلك فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل صالحاً، قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقول: فلان فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله -تبارك وتعالى-. فإذا كان الرجل السوء قال: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنها لا تفتح لك أبواب السماء، فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر; فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشعوف ثم يقال له: فيم كنت؟ فيقول: كنت في الإسلام فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه، فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله، فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً، فيقال له: انظر إلى ما وقاك الله –تعالى-، ثم يفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له: هذا مقعدك، ويقال له: على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله. ويجلس الرجل السوء في قبره فزعا مشعوفاً، فيقال له: فيم كنت؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: ما هذا الرجل؟ فيقول: سمعت الناس يقولون قولا فقلته! فيفرج له فرجة قبل الجنة، فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له: انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة إلى النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً، فيقال: هذا مقعدك، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله)2.

فالمطلوب من الإنسان أن يتذكر ذلك المكان الذي سيؤول إليه، قال مجاهد: "أول ما يكلم ابن آدم حفرته تقول: أنا بيت الدود، وبيت الوحدة، وبيت الوحشة، وبيت الظلمة، وبيت الغربة! هذا ما أعددت لك يا ابن آدم فما أعددت لي؟!"3.

وقال عمر بن عبد العزيز -رحمة الله عليه- لبعض جلسائه: "يا فلان لقد أرقت البارحة تفكيرا بالقبر وساكنه، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاث ليال في قبره لاستوحشت منه بعد طول الأنس به، ولرأيت بيتاً تجول الهوام فيه، ويجري فيه الصديد، وتخرقه الديدان مع تغير الريح وتقطع الأكفان، وكان ذلك بعد حسن الهيئة، وطيب الريح، ونقاء الثوب، ثم شهق شهقة خر مغشياً عليه"4.

فينبغي للإنسان أن يكثر من ذكر هذا الموقف الرهيب، يقول سفيان الثوري: "من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة، ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار"5.

وكان مغيث الأسود يقول: "زوروا القبور كل يوم بفكركم، وتوهموا جوامع الخير كل يوم بعقولكم، وشاهدوا الموقف كل يوم بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة والنار بهممكم، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها"6.

فالله الله في تذكر القبر وظلمته، حتى تخشع القلوب، وتدمع العيون، ويزهد العبد في الدنيا، ويقبل على الآخرة، ويكثر من الطاعة، ويقصر عن المعصية، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 رواه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد، قال الألباني: "حسن" كما في صحيح الجامع، رقم (1684).

2 رواه أحمد، وقال الألباني: "صحيح" كما في صحيح الجامع، رقم(1968).

3  إحياء علوم الدين(4/486).

4 العاقبة في ذكر الموت، صـ(191) لعبد الحق الإشبيلي.

5 التذكرة، صـ(108) للقرطبي.

6 التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، صـ(51). الناشر : مكتبة دار البيان – دمشق