بيع الثمار

بيع الثمار

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، أما بعد:

فإن مما أحل الله تبارك وتعالى البيع بجميع أشكاله وأوصافه إلا ما استثناه من بيوع الربا أو البيوع التي فيها غش وغبن ونحو ذلك، وهذا من يسر الشريعة الإسلامية فإنها فتحت باب المعاملات للناس واسعاً ولم تضيق عليهم إلا ما فيه ضرر عليهم أو غيرهم، إلا أن كثيراً من المسلمين وخاصة في هذا الزمن يعمدون إلى الحرام الضيق ويتركون الحلال الواسع وهذا من تسويل الشيطان وإغوائه.. هدى الله الجميع إلى الحق المبين.

ولدينا مسألة من مسائل البيع التي تهم الناس في هذا الزمن حيث يكثر التعامل بها، وهي مسألة بيع الثمار، فإن لهذا الموضوع أهميته من حيث ما يعرض منه في الحياة التجارية والعملية، لهذا يحتاج إلى بعض التفصيلات والكلام فيها.

لقد أجمع العلماء على أن بيع الثمار قبل أن تخلق لا ينعقد؛ لأنه من باب النهي عن بيع ما لم يخلق ومن باب بيع السنين والمعاومة.1

وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه "نهى عن بيع السنين وعن بيع المعاومة".

وبيع المعاومة يعني: بيع الشجر أعواماً لأنه بيع المعدوم، وقد نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر، والغرر: هو ما انطوى عنه أمره، وخفي عليه عاقبته، ونوع الغرر: هو أن المبيع مجهول الوجود قد يظهر وقد لا يظهر، ومجهول المقدار إن وجد.

وأما بيع الثمار بعد القطع أو الصرام، فلا خلاف في جوازه.

وأما بيع الثمار على الشجر أو بيع الزرع في الأرض بعد أن يخلق، فاختلف فيه العلماء: فقال الحنفية: إما أن يكون البيع قبل بدو الصلاح، أو بعد بدو الصلاح بشرط القطع، أو مطلقاً أو بشرط الترك.

أولاً:بيع الثمار قبل بدو الصلاح:

بيع الثمار قبل بدو الصلاح وبيع الزرع قبل اشتداد الحب لا يصح، مخافة التلف وحدوث العاهة قبل أخذها.

فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر: أن النبي، -صلى الله عليه وسلم- نهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع.2

وروى مسلم عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري".3

وروى البخاري عن أنس: أن النبي، -صلى الله عليه وسلم-، قال: (أرأيت إن منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟).4.5

وفيه ثلاث حالات:

1.   إن كان بشرط القطع جاز، ويجب القطع للحال، إلا بإذن البائع.

2. وإن كان البيع مطلقاً عن الشرط: جاز أيضاً عند الحنفية خلافاً للشافعية ومالك وأحمد؛ لأن الترك ليس بمشروط نصاً، إذ العقد مطلق عن الشرط أصلاً، فلا يجوز تقييده بشرط الترك من غير دليل، خصوصاً إذا كان في التقييد فساد العقد.

وجواز بيعه على الصحيح عند الحنفية؛ لأنه مال منتفع به ولو علفاً للدواب، وإن لم يكن منتفعاً به في الحال عند الإنسان.

3. وإن كان بشرط الترك فالعقد فاسد باتفاق علماء الحنفية؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد العاقدين: وهو المشتري ولا يلائم العقد، ولا جرى به التعامل بين الناس.

ومثل هذا الشرط مفسد للبيع كما لو اشترى حنطة بشرط أن يتركها في دار البائع شهراً؛ ولأنه لا يتمكن من الترك إلا بإعارة الشجر والأرض، وهما ملك البائع، فصار بشرط الترك شارطاً الإعارة، فكان شرطه صفقة في صفقة، وهذا منهي عنه.

ثم إنه مشتمل على الغرر إذ لا يدري المشتري هل يبقى الثمر أم تصيبه آفة فيهلك، فعلة فساد البيع إذاً ثلاثة أمور: فيه غرر، وشرط فاسد، وصفقة في صفقة.6

بيعها لمالك الأصل أو لمالك الأرض:

ما سبق من الحكم هو بالنسبة لغير مالك الأصل ولغير مالك الأرض، فإن بيعت الثمار قبل بدو صلاحها لمالك الأصل صح البيع، كما لو بيعت الثمرة قبل بدو الصلاح مع الأصل.

وكذلك يصح بيع الزروع قبل بدو الصلاح لمالك الأرض، لحصول التسليم بالنسبة للمشتري على وجه الكمال.

ثانياً: بيع الثمر بعد بدو الصلاح:

بم يعرف الصلاح؟:

يعرف صلاح البلح بالاحمرار والاصفرار.

فقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس أن النبي، -صلى الله عليه وسلم-: "نهى عن بيع ثمرة النخل حتى تزهو" فقلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر وتصفر.7

ويعرف صلاح العنب بظهور الماء الحلو واللين والاصفرار.8

ويعرف صلاح سائر الفواكه بطيب الأكل وظهور النضج.

روى البخاري ومسلم عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب".9

ويعرف صلاح الحبوب والمزروع بالاشتداد، وعند الأحناف أن بدو الصلاح يكون بأن تؤمن العاهة والفساد، أي أن المعتبر ظهور الثمرة.

قال في حاشية رد المحتار: "ولكن بدو الصلاح عندنا أن تؤمن العاهة والفساد."10

حكم ترك الثمار بعد بدو الصلاح حالة الشراء مطلقاً:

 لو اشترى الشخص مطلقاً عن شرط، فترك الثمار حتى نضجت، ففيه تفصيل:

 1- إن كان قد تناهى عظمه، ولم يبق إلا النضج: لم يتصدق المشتري بشيء سواء ترك بإذن البائع أو بغير إذنه، لأنه لا يزداد بعد التناهي، وإنما يتغير إلى حال النضج.

وأما الزرع فالنماء فيه يكون للمشتري طيباً، حتى وإن تركه بغير إذن البائع؛ لأنه نماء ملك المشتري؛ لأن الساق ملكه، حتى يكون التبين له بخلاف الشجرة.

2- وإن لم يتناه عظمه ينظر: إن كان الترك بإذن البائع، جاز وطاب له الفضل، وإن كان بغير إذنه تصدق بما زاد على ما كان عند العقد؛ لأن الزيادة حصلت بسبب محظور، فأوجب خبثاً فيها، فكان سبيلها التصدُّق.11

حكم الثمرة المتجددة في مدة الترك غير المشروطة:

إذا أخرجت الشجرة في مدة الترك ثمرة أخرى، فهي للبائع سواء أكان الترك بإذنه أم بغير إذنه؛ لأنه نماء ملك البائع، فيكون له، ولو حللها له البائع جاز.

وإن اختلط الحادث بعد العقد بالموجود عنده، بحيث لا يمكن التمييز بينهما ينظر:

إن كان ذلك قبل أن يخلي البائع بين المشتري والثمار، بطل البيع، كما قرر الكاساني في البدائع؛ لأن المبيع صار معجوز التسليم بالاختلاط، للجهالة وتعذر التمييز.

 وإن كان بعد التخلية لم يبطل البيع؛ لأن التخلية قبض، ويتم البيع، والثمرة تكون بينهما، لاختلاط ملك أحدهما بالآخر اختلاطاً لا يمكن التمييز بينهما، فكان الكل مشتركاً بينهما، والقول في مقدار الزيادة قول المشتري، لأنه صاحب يد لوجود التخلية. هذا هو مذهب الحنفية في بيع الثمار أو الزروع.

 وقال المالكية والشافعية والحنابلة: إن بدا صلاح الثمر صح بيعه مطلقاً أو بشرط القطع أو بشرط الترك على الشجر.

أما قبل بدو الصلاح فإن كان البيع بشرط الترك أو البقاء فلا يصح إجماعاً؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع"12 والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث؛ وذلك لأن له خطر المعدوم.

 وإن كان البيع بشرط القطع في الحال فيصح بالإجماع أيضاً.

 وأما إذا كان البيع قبل بدو الصلاح مطلقاً دون اشتراط تبقية ولا قطع، فالبيع باطل.

مسألة:

بيع الثمار التي تظهر بالتدريج:

إذا بدأ صلاح بعض الثمر أو الزرع جاز بيعه جميعاً صفقة واحدة، ما بدا صلاحه وما لم يبد منه، متى كان العقد وارداً على بطن واحدة.

وكذلك يجوز البيع إذا كان العقد على أكثر من بطن وأريد بيعه بعد ظهور الصلاح في البطن الأول.

ويتصور هذا في حالة ما إذا كان الشجر مما ينتج بطونا متعددة كالموز من الفواكه، والقثاء من الخضروات، والورد من الأزهار، ونحو ذلك مما تتلاحق بطونها، وإلى هذا ذهب فقهاء المالكية وبعض فقهاء الحنفية والحنابلة، واستدلوا على هذا بما يأتي:

  1. أنه ثبت عن الشارع جواز بيع الثمر إذا بدا صلاح بعضه، فيكون ما لم يبد صلاحه تابعاً لما بدا منه، فكذلك ما هنا: يقع العقد فيه على الموجود ويكون المعدوم تبعا له.13
  2. أن عدم جواز هذا البيع يؤدي إلى محظورين:

أ- وقوع التنازع.

ب- تعطيل الأموال.

أما وقوع التنازع: فإن العقد كثيراً ما يقع على المزارع الواسعة، ولا يتمكن المشتري من قبض البطن الأول من ثمارها إلا في وقت قد يطول ويتسع لظهور شيء من البطن الثاني، ولا يمكن تميزه من البطن الأول، فيقع النزاع بين المتعاقدين ويأكل أحدهما مال الآخر.

أما المحظور الثاني: فإن البائع قلما يتيسر له في كل وقت من يشتري منه ما يظهر من ثمره أولاً فأول، فيؤدي ذلك إلى ضياع ماله.

وإذا كان ذلك كذلك فإنه يجوز البيع في هذه الصورة، والقول بعدم الجواز يوقع في الحرج والمشقة، وهما مرفوعان بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (78) سورة الحـج.

وقد رجح ابن عابدين هذا القول، وأخذت به مجلة الأحكام الشرعية.14

 والخلاصة:

لا خلاف في عدم جواز بيع الثمار قبل أن تظهر، ولا في عدم جوازه بعد الظهور قبل بدو الصلاح بشرط الترك، ولا في جوازه قبل بدو الصلاح بشرط القطع فيما ينتفع به، ولا في الجواز بعد بدو الصلاح، والخلاف إنما هو في بيعها قبل بدو الصلاح.

 ورجح بعض الحنفية جواز بيع الثمار مطلقاً قبل بدو الصلاح أو بعده إذا جرى العرف بترك ذلك؛ لأن الشرط الفاسد إذا جرى به العرف صار صحيحاً ويصح العقد معه استحساناً.15 وهذا مخالف للحديث السابق، والحق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإن خالف ذلك من خالف؛ فليست القضية هي العرف بقدر ما هي معرفة الحكمة التي من أجلها منع ذلك التصرف، وهي الخوف من التلف والخلاف..

هذا ما يسر به الله تعالى من ملخص في هذا الموضوع، والله أسأل أن يجعل معاملاتنا فيما يرضيه، والحمد لله رب العالمين.


1 النهي عن بيع مالم يخلق داخل تحت النهي عن بيع ما ليس عند البائع.

2 رواه البخاري برقم (1415).

3 رواه مسلم (1535).

4 رواه البخاري (2086).

5 فقه السنة – السيد سابق. دار الفكر- ط2: 1419هـ-1998م: (3/109).

6 الفقه الإسلامي وأدلته- د/وهبة الزحيلي      ، ط4 المعدلة- 1425هـ(5/3476).

7 رواه البخاري (2083)ومسلم (1555).

8 وما ورد من النهي عن بيع العنب حتى يسود فإنه بالنسبة للعنب الأسود.

9 رواه أحمد برقم (14389) قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي الزبير فمن رجال مسلم.

10 حاشية رد المحتار (5/62).

11 البدائع للكاساني (5/173).

12 سبق تخريجه.

13 هذا إذا اشترى جميع الثمار، أما إذا اشترى بعضها فلكل شجرة حكم بنفسها.

14 فقه السنة (3/110-111).

15 الفقه الإسلامي وأدلته – وهبة الزحيلي (3478-3488).