الجرح النازف

الجرح النازف

 

الحمد لله معزِّ الإسلام بنصره, هازم الأحزاب، مجري السحاب، مسبب الأسباب, خالق الإنسان من تراب, أمات وأحيا، خلق فسوى، وقدَّر فهدى، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، أما بعد:

المتأمل لواقع هذه الأمة بعين البصيرة يدرك أنها تمرُّ بفتن تعصف بها كعصف الرياح, فتن في شتى المجالات, وإحدى هذه الفتن: فتنة تكالب الأعداء عليها، حتى لكأن الأمة شيء يؤكل وضِعَ في قصعة فاجتمع عليه الناس، وقد أخبر بذلك الصادق المصدوق – صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم – في حديث ثوبان – رضي الله عنه – قال: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها))، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء – ما يحمله السيل من وسخ  – كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)) فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا، وكراهية الموت))1, وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم))2, فالعقوبة إذن هي عقوبتان كما في الحديث الأول:

الأولى: انتزاع مهابتنا من صدور عدونا.

والثانية: عقوبة الوهن.

وهاتان العقوبتان من الله – تبارك وتعالى – هي للمتخاذلين من المسلمين في كل المجالات؛ فيجعلهم في موضع الغثائية لا قيمة لهم، تتقاذفهم أمواج الفتن من كل جانب، وهذا هو نتيجة الخواء والاستفراغ، والتآكل الجسدي للجسم المسلم؛ بعد أن كان ذو وزن وقيمة، يخافه الناس مهابةً, وإجلالاً، وتقديراً؛ فأصبح جسداً هشاً، نحيفاً شاحباً، تتدافعه الصيحات والأيدي.

إن ما أوصلنا لمرض الغثائية هو الاستجابة للدنيا بكل صيحاتها، والاستجابة للنفس والهوى, وللنساء والمال, وللمنصب والجاه, وعدِّد ما شئت من المغريات والملهيات، وهذا واضح في قول الله – تبارك وتعالى -: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}3 فهذه الآية الكريمة تجمع كل أنواع حب الدنيا.

وقد نشأ عن مرض الوهن الحرص على تحصيل الدنيا بكل وسيلة، وجمعها بكل سبب، فأصبح كل إنسان لا يهمه إلا نفسه، ولربما أحياناً ما يتعلق ببلاده؛ ولو كان في ذلك ذهاب دينه, مع أن الواجب عليه المبادرة بالأعمال، وقد دعانا النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – إلى ذلك كما هو ثابت في الصحيح من حديث  أبي هريرة  – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ((بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا))4.

ويضعنا النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الأول أمام صورة حركية مدهشة يمثلها بقوم جياع شرهين طامعين، يبحثون عن وليمةٍ باردةٍ سهلةٍ يأكلونها، وعندما يجدون هذه الفريسة؛ يقف كل واحد منهم على مشارف الطرق ويذهب إلى النوادي والمحافل، فيدعو الأمم والفرق، والأفراد والقبائل، والداعي هنا إلى الطعام لئيم حاقد خسيس، تأصَّل فيه الشر حتى صار معدناً له، وكما يدعو صاحب الطعام ضيوفه إلى الوليمة؛ فكذلك الأمم الكافرة والفرق الضالة تدعو بعضها بعضاً علينا؛ إذ نحن الوليمة يومئذ.

وتأمل أخي في الله هذا التشبيه من النبي – صلى الله عليه وسلم – للمسلمين بالقصعة، الغنيمة الباردة التي يهيئها صاحبها بالنسق الذي يسيل لعابه، ويتحكم بشكلها وطعمها، والقصعة بين يديه مستسلمة تنتظر موعد وصولها إلى فم آكلها.

أخي في الله: إن هذا الحب للدنيا، والكراهية للموت؛ هو الذي يستلزم الرضا بالذل، والاستكانة إليه، والرغبة عن الجهاد في سبيل الله – تبارك وتعالى – على اختلاف أنواعه من الجهاد بالنفس، والمال، واللسان وغير ذلك، وهذا هو حال غالب المسلمين اليوم مع الأسف الشديد, وها هي غزة اليوم تحترق بنار العدو الإسرائيلي الغاشم، سفك للدماء، وقتل للرجال والنساء، والشيوخ والأطفال، وتشريد للناس، والمسلمون في أرض غزة يستغيثون فهل من مغيث يا أمة الإسلام؟ وأهل غزة محاصرون, وهم يموتون من الجوع فهل من منجد؟

إن غزة تستحق كل الدموع العربية والإسلامية أن تذرف عليها، وإن سيلان الدمع لا يجرف البغي ولا يزيله, ولا يمحو الظلم المكتوب بالخط العريض، ويغير الموازين؛ إلا قليل من الدماء الزكية الذي يبذلها أهلها مقبلين غير مدبرين، وإن الدماء الزكية التي تسيل اليوم في أرض غزة دماء طيبة زكية, قد اختار الله – تعالى – أن يكون أصحابها أحياء عند ربهم يرزقون، فنسأله أن يتقبلهم في الشهداء {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ}5, {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}6, {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}7, {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}8.

إن الحرية ليست مجانية، وهي لا تتحقق بجمل مُنَمَّقة في هجاء الباغي الظالم، ومدح المظلوم، ولا بتجمعات خطابية للتنفيس عن الأحزان، وتبرئة الضمير, إن الجراح النازفة في أرض غزة الغالية مسؤول كل مسلم في أنحاء الأرض عما قدم لهم: هل أمدهم بالمال؟ هل دعا لهم؟ هل حمل همَّهم؟

إن العين لتدمع، والقلب يحزن؛ على أُناس سُفكت دمائهم ظلماً وعدواناً, وعلى هذه المجازر التي تحصل هناك على أيدي إخوان القردة والخنازير من اليهود الذين هم من أشد الناس عداوة للمؤمنين كما قال الله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}9, وليس بأمر مستغرب منهم، فقد قلُّوا أدبهم مع ربهم – تبارك وتعالى – فقالوا: إن الله فقير كما أخبر القرآن عنهم: {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}10 وقالوا: يد الله مغلولة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}11 وغيرها كثير – تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً -, وقتلوا الأنبياء, وحاولوا قتل نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – فنجَّاه الله منهم، وهم قوم بهت يبهتون ويغدرون؛ فإذا كانوا كذلك فلن نستغرب عليهم إذ صنعوا ما صنعوا في غزة.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يلطف بإخواننا في غزة, وأن يحسن أوضاعهم, وأن يهلك عدوهم, ونسأل الله أن يمكِّن لإخواننا منهم, وأن يجعلهم غنيمة للمسلمين, ونسأله – تعالى – أن يجمع كلمة المسلمين على الكتاب والسنة بمنه وكرمه، والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


1 رواه أبو داود برقم (4297)؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (958).

2 رواه أبو داود برقم (3462)؛ والبيهقي في السنن الكبرى برقم (10484)؛ وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (11).

3 سورة آل عمران (14).

4 رواه مسلم برقم (118).

5 سورة البقرة (154).

6 سورة آل عمران (169-170).

7 سورة النساء (74).

8 سورة التوبة (111).

9 سورة المائدة (82).

10 سورة آل عمران (181).

11 سورة المائدة (64).