تنبيهات نبوية

 

 

تنبيهات نبوية

الحمد لله وحده، وأصلي وأسلم على من لا نبي بعده، أما بعد:

المدقق في سيرة النبي   يجده كثيراً ما ينبهنا ويحذرنا، ويعلمنا ويرشدنا، وهو إذ يفعل ذلك إنما يفعله رحمةً بنا؛ أليس هو من ذكره الله فقال عنه: {وَمَا أَرْسلْنَاكَ إِلَا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}1، يقول ما يقول، ويفعل ما يفعل، كل ذلك حرصاً منه   من أن تزل أقدامنا، أو تضل عقولنا، أو نتبع شهواتنا.

وفي تنبيهاته   من المعاني العظيمة، والحكم البالغة؛ ما تعجز العقول عن إدراكها، والأفهام عن تصورها، حتى إنه ليشدد في النهي بحسب الضرر والجرم والخطر على عقيدة المسلم ابتداءً، ثم ما يضر بقيةَ دينه مراعياً الأهم فالمهم، معبراً بقوله: ((إياكم)) و: ((ألا لا يأتني))، وبقوله: ((أنا بريء))، وبقوله: ((فقد عصى))، وبقوله: ((اجتنبوا))، وبقوله: ((بئس…))، وبقوله: ((سحقاً سحقاً))، وبقوله: ((لا ألفين))، وغيرها من تنبيهاته وتحذيراته لأمته من مغاب الشر، ومهاوي الرذيلة، حتى يتم البلاغ، وتبرأ الذمة، وتقام الحجة: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}2، ولعلنا أن نأخذ بعضاً مما نبه عليه، وجزءً مما حذرنا منه؛ والله المستعان، وعليه التكلان، ومن بغيره استعان لا يعان:

· قوله  : ((إياكم والظن فان الظن أكذب الحديث))3 قال الإمام النووي – رحمه الله – عند شرحه للحديث: ” المراد النهي عن ظن السوء، وقال الخطابي: هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس، فإن ذلك لا يملك، ومراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه، ويستقر في قلبه دون ما يعرض في القلب ولا يستقر، فإن هذا لا يكلف به كما سبق في حديث تجاوز الله – تعالى – عما تحدثت به الأمة ما لم تتكلم أو تعمد، وسبق تأويله على الخواطر التي لا تستقر، ونقل القاضي عن سفيان أنه قال: الظن الذي يأثم به هو ما ظنه وتكلم به، فإن لم يتكلم لم يأثم، قال: وقال بعضهم: يحتمل أن المراد الحكم في الشرع بظن مجرد من غير بناء على أصل، ولا نظر واستدلال، وهذا ضعيف أو باطل، والصواب الأول”4.

وقوله  : ((إياكم وهيشات الأسواق))5، قال الإمام النووي – رحمه الله – عند شرحه للحديث: ” أي اختلاطها، والمنازعة والخصومات، وارتفاع الأصوات واللغط، والفتن التي فيها”6 وغيرها من أشباهها ونظائرها.

· وكتنبيهه بقوله: “ألا لا”، وذلك مثل: حديث جابر قال: قال رسول الله  : ((ألا لا يـبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحاً أو ذا محرم))7 قال الأمام النووي – رحمه الله – عند شرح الحديث: “ومعناه لا يبيتن رجل عند امرأة إلا زوجها أو محرم لها، قال العلماء: إنما خص الثيب لكونها التي يدخل إليها غالباً، وأما البكر فمصونة متصونة فى العادة، مجانبة للرجال أشد مجانبة، فلم يحتج إلى ذكرها؛ ولأنه من باب التنبيه؛ لأنه إذا نهى عن الثيب التي يتساهل الناس فى الدخول عليها فى العادة فالبكر أولى، وفى هذا الحديث والأحاديث بعده تحريم الخلوة بالأجنبية، وإباحة الخلوة بمحارمها، وهذان الأمران مجمع عليهما، وقد قدمنا أن المحرم: “هو كل من حرم عليه نكاحها على التأبيد لسبب مباح لحرمتها”، فقولنا “على التأبيد” احتراز من أخت امرأته، وعمتها، وخالتها ونحوهن، ومن بنتها قبل الدخول بالأم، وقولنا لسبب مباح: احتراز من أم الموطوءة بشبهة، وبنتها؛ فإنه حرام على التأبيد، لكن لا لسبب مباح فإن وطء الشبهة لا يوصف بأنه مباح ولا محرم، ولا بغيرهما من أحكام الشرع الخمسة؛ لأنه ليس فعل مكلف، وقولنا: “لحرمتها” احتراز من الملاعنة فهي حرام على التأبيد لا لحرمتها بل تغليظاً عليهما، والله أعلم”8.

وكما جاء في حديث حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة   أخبره أن أبا بكر الصديق   بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله   قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس: ((ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان))9 قال النووي – رحمه الله – عند شرحه للحديث: “قوله  : “لا يحج بعد العام مشرك” موافق لقول الله – تعالى -: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}، والمراد بالمسجد الحرام هنا الحرم كله، فلا يمكَّن مشرك من دخول الحرم بحال حتى لو جاء في رسالة، أو أمر مهم، لا يمكَّن من الدخول، بل يخرج إليه من يقضى الأمر المتعلق به، ولو دخل خفية ومرض ومات نبش وأخرج من الحرم، وقوله  : “ولا يطوف بالبيت عريان” هذا إبطال لما كانت الجاهلية عليه من الطواف بالبيت عراة، واستدل به أصحابنا وغيرهم على أن الطواف يشترط له ستر العورة، والله أعلم”10.

· وتارة ينبه   بقوله: “اجتنبوا”  كما جاء في حديث  أبى هريرة   أن رسول الله   قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قيل: يا رسول الله وما هن قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات))11 قال الأمام النووي – رحمه الله – عند شرحه للحديث: “وأما الموبقات: فهي المهلكات، يقال: وبق الرجل بفتح الباء يبق بكسرها، ووبق بضم الواو وكسر الباء يوبق إذا هلك، وأوبق غيره: أي أهلكه، وأما الزور فقال الثعلبى المفسر، وأبو إسحاق، وغيره أصله: تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو به فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق، وأما المحصنات الغافلات: فبكسر الصاد وفتحها قراءتان في السبع، قرأ الكسائي بالكسر، والباقون بالفتح، والمراد بالمحصنات: هنا العفائف، وبالغافلات: الغافلات عن الفواحش، وما قذفن به، وقد ورد الإحصان فى الشرع على خمسة أقسام: العفة، والإسلام، والنكاح، والتزويج، والحرية، وقد بينت مواطنه وشرائطه وشواهده فى كتاب تهذيب الأسماء واللغات، والله أعلم وأما معاني الأحاديث وفقهها فقد قدمنا فى الباب الذى قبل هذا كيفية ترتيب الكبائر قال العلماء – رحمهم الله -: “ولا انحصار للكبائر فى عدد مذكور، وقد جاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه سئل عن الكبائر أسبع هي؟ فقال: هي إلى سبعين، ويروى إلى سبعمائة أقرب، وأما قوله الكبائر سبع، فالمراد به من الكبائر سبع، فإن هذه الصيغة وإن كانت للعموم فهي مخصوصة بلا شك، وإنما وقع الاقتصار على هذه السبع وفى الرواية الأخرى: ثلاث، وفى الأخرى: أربع لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لاسيما فيما كانت عليه الجاهلية، ولم يذكر فى بعضها ما ذكر فى الأخرى، وهذا مصرح بما ذكرته من أن المراد البعض، وقد جاء بعد هذا من الكبائر شتم الرجل والديه، وجاء فى النميمة، وعدم الاستبراء من البول أنهما من الكبائر وجاء فى غير مسلم من الكبائر اليمين الغموس، واستحلال بيت الله الحرام، وقد اختلف العلماء فى حد الكبيرة وتمييزها من الصغيرة فجاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما – كل شيء نهى الله عنه فهو كبيرة، وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الاسفراينى الفقيه الشافعي الإمام فى علم الأصول والفقه وغيره، وحكى القاضي عياض – رحمه  الله – هذا المذهب عن المحققين، واحتج القائلون بهذا بأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال الله – تعالى – كبيرة، وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، وهو مروى أيضاً عن ابن عباس – رضي الله عنهما -، وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسنة، واستعمال سلف الأمة وخلفها، قال الامام أبو حامد الغزالي فى كتابه “البسيط فى المذهب”: إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقه، وقد فهما من مدارك الشرع، وهذا الذى قاله أبو حامد قد قاله غيره بمعناه، ولا شك فى كون المخالفة قبيحة جداً بالنسبة إلى جلال الله – تعالى – ولكن بعضها أعظم من بعض، وتنقسم باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس، أو صوم رمضان، أو الحج، أو العمرة، أو الوضوء، أو صوم عرفة، أو صوم عاشوراء، أو فعل الحسنة، أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإلى ما لا يكفره ذلك كما ثبت فى الصحيح “ما لم يغش كبيرة” فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر، وما لا تكفره كبائر، ولا شك فى حسن هذا، ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله – تعالى – فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها لكونها أقل قبحاً، ولكونها متيسرة التكفير، والله أعلم”12.

ومثل ذلك ما ورد في عدة أحاديث نذكر منها: ((اجتنبوا أم الخبائث))، ((اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا))، ((اجتنبوا كل مسكر))، ((اجتنبوا هذه الشجرة المنكرة من أكلها فلا يقربن مسجدنا))، ((اجْتَنِبُوا أَنْ تَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالْمُزَفَّتِ، وَاشْرَبُوا فِي السِّقَاءِ، فَإِنْ رَهِبْتُمْ غَلْيَتَهُ فَأَمِدُّوهُ بِالْمَاءِ))، ((اجتنبوا اللعانين))، ((اجتنبوا أعداء الله اليهود والنصارى))، ((اجتنبوا دعوات المظلوم))13.

فهذا بعض مما نبه عليه نبينا  ، وحذر أمته منه لئلا تقع في مغبته، فتخسر دنياها وأخراها، نسأل الله – تعالى – أن يلهمنا رشدنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


1 سورة الأنبياء (107).

2 سورة النساء (165).

3 رواه مسلم برقم (2563).

4 شرح النووي على مسلم (16/118).

5 رواه مسلم برقم (432).

6 شرح النووي على مسلم (4/156).

7 رواه مسلم برقم (5802).

8 شرح النووي على مسلم (14/153).

9 رواه البخاري برقم (1543).

10 شرح النووي على مسلم (9/116).

11 رواه مسلم برقم (272).

12 شرح النووي على مسلم (2/83).

13 كل ما ذكر من هذه الأحاديث حكم عليها الألباني إما بالصحة أو الحسن، وهي مخرجة في الصحيحين، أو السنن، أو المسانيد، أو المعاجم، أو الموطآت، ولولا خشية الإطالة لخرجت كل حديث على حدة.