الطاغوت

 

 

الطـاغـوت

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد تعددت آيات القرآن الكريم في ذكر الطاغوت ومن عبده من دون الله تعالى، وذمت الطاغوت ومن عبده، أو تحاكم إليه، أو جعله رباً من دون الله كما في قوله – تعالى-عن بني إسرائيل: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} سورة المائدة (60)، وقال -تعالى- عن دعوة الرسل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ..} (سورة النحل 36)، وقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِوَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِإِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} سورة البقرة (256-257)، وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَىالَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَلَهُ نَصِيرًا} سورة النساء (51-52).

وسُئِل جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – عن “الطواغيت” فقال: هم كهان تنزل عليهم الشياطين.

وقال مجاهد: “الطاغوت”: الشيطان في صورة إنسان، يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم.

وقال الإمام مالك: “الطاغوت”: هو كل ما يعبد من دون الله – عز وجل -.

وقال ابن القيم: “الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت،وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى الطاغوت ومتابعته”[1]

أيها المؤمنون:

“إن أول ما فرض الله على العباد هو الإيمان به والكفر بالطاغوت، ودليل ذلك قوله -تعالى-: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} فأوجب الله – تعالى- الإيمان به، والكفر بالطاغوت.

ولكننا في هذا الزمن آمنا بالله – تعالى-، وجهلنا الكفر بالطاغوت، بل أكثرنا يجهل هذا ولا يعلمه، وكل ذلك بسبب انتشار الجهل بيننا، والتكاسل عن طلب العلم والقراءة في كتب العلماء، والاكتفاء بالمعلومات العامة الدينية، وما إن يمتلكها أي واحد منا حتى يبدأ في النقاش لطلبة العلم، ومصارعتهم في مجالسهم، وهو لا يعلم من دينه شيء،وقد تناسى أصلاً أصيلاً من الإيمان به حيث أنه لو لم يأت به لا يصير مؤمنا بالله..

يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -: ( والطاغوت: عام في كل ما عبد من دون الله، فكل ما عُبد من دون الله، ورضي بالعبادة من معبود، أو متبوع، أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله فهو طاغوت).[2]

وقيل: (الطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد) اهـ.[3]

وقيل: (اسم الطاغوت يشمل: كل معبود من دون الله، وكل رأس في الضلالة يدعو إلى الباطل ويحسنه، ويشمل أيضاً: كل ما نصبه الناس بينهم بأحكام الجاهلية المضادة لحكم الله ورسوله، ويشمل أيضا: الكاهن والساحر، وسدنة الأوثان) اهـ.[4]

والطواغيت أنواع كثيرة:

1- طاغوت حكم.

2- وطاغوت عبادة.

3- وطاغوت طاعة ومتابعة.

وأما رؤوس الطواغيت فهم خمسة:

– الأول: الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله كما قال – تعالى-: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (60) سورة يــس.

– الثاني: الحاكم الجائر المغير لأحكام الله – تعالى- كما قال – تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْأُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (60) سورة النساء.

-الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله قال – تعالى-: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(44) سورة المائدة.

– الرابع: الذي يدعي علم الغيب من دون الله قال – تعالى-: {عَالِمُالْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (27) سورة الجن.

– الخامس: الذي يعبد من دون الله وهو راض بالعبادة قال – تعالى-: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (29) سورة الأنبياء.

فـ”حاصل كلام المفسرين أن الطاغوت كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه.

ثم إنه إن كان راضياً فكونه من الطواغيت واضح، وإن كان من الأنبياء أو الصالحين الذين لا يرتضون عبادتهم من دون الله – تعالى-، أو من خلق الله – تعالى- كالشمس والقمر؛ فليسوا طواغيت بالنظر إلى ذواتهم، وإنما يقع الاسم على العبادة المصروفة لغير الله – تعالى- لأنها طغيان من العابدين، فهي طاغوتهم.

ولهذا لو قيل هل كل طاغوت كافر؟ فالجواب: إن سميناه طاغوتاً بإطلاق فهو كافر؛ لأنه لا يكون كذلك إلا وهو راض، وإن كان لا يصح إطلاق اسم الطاغوت عليه، وإنما على العبادة، فالكفر هو عبادة غير الله – تعالى-، والكافر هو العابد لغير الله -تعالى-.

ومعلوم أن الذين يعبدون الصالحين أو الأحجار، والأصنام والشمس أو القمر يتخيلونأنها راضية بعبادتهم وإلا لما عبدوها، فهم يعبدون مثالاً آخر في نفوسهم ليس هو الحقيقة، إذ معبودهم الحقيقي كافر بعبادتهم، فهذا المثال هو طاغوتهم، وهو عبادتهم لغير الله – تعالى-، قد طغوا بعبادتهم غير الله – تعالى- فذلك هو طاغوتهم، كما يتخذالإنسان هواه إلهاً فيكون طاغوته، ويتخذ عقله إلهـاً فيكون طاغوته.

فالطاغوت كل ذي طغيان على الله فعبد من دونـه إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعةممن عبده له، وإنساناً كان ذلك المعبود، أو شيطاناً، أو وثناً، أو صنماً، أو كائناً ما كان من شيء.

وقد يكون الطاغوت واحداً قال الله – تعالى-: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ}(60) سورة النساء، وقد يكون جمعاً قال الله – تعالى-: {أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} (257) سورة البقرة، والجمع الطواغيت.

واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمناً بالله إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله -تعالى-: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256) سورة البقرة، فالرشد: دين محمد – صلى الله عليه وآله وسلم -، والغي: دين أبي جهل، والعروة الوثقى: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي متضمنة للنفي والإثبات، تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله، وتثبت جميع أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له.

اللهم بصرنا بقواطع الشك والظن، ونورنا بنور الإيمان والحق واليقين، وأصلح لنا كل أمر فإنك على كل شيء قدير، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المؤمنين إنك أنت الغفور الرحيم.

 الخطبة الثانية:

الحمد لله المتفرد بالكمال والجلال، المسيطر على جميع الحوادث والأحوال، وصلى الله وسلم على نبيه ذي البهاء والجمال، وعلى خير صحب وآل.. أما بعد:

أيها المؤمنون: إن من تأمل آيات الكتاب العزيز علم يقيناً أن الله – تعالى- جعل اسم الطاغوت هو الاسم الجامع لضلال الكفر كله، المقابل لهدى الإيمان الذي جاءت به الأنبياء، فكيف لا يكون من استحق هذا الاسم كافراً!.

كما في قوله – تعالى-: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256) سورة البقرة، وهذه الآية تلخص الإسلام في كلمتين: الكفر بالطاغوت، وتجعل ذلك مقابل الإيمان بالله.

عبادالله:

إن الطاغوت لا يقوم في الأرض إلا مدعياً أخص خصائص الألوهية وهو الربوبية، أي حق تعبيد الناس لأمره وشرعه، ودينونتهم لفكره وقانونه، وهو إذ يزاول هذا في عالم الواقع يدعيه – ولو لم يقله بلسانه – فالعمل دليل أقوى من القول.

إن الطاغوت لا يقوم إلا في غيبة الدين القيم والعقيدة الخالصة عن قلوب الناس، فمايمكن أن يقوم وقد استقر في اعتقاد الناس فعلاً أن الحكم لله وحده، لأن العبادة لا تكون إلا لله وحده، والخضوع للحكم عبادة، بل هي مدلول العبادة.

إن الطاغوت صيغة من الطغيان، تفيد كل ما يطغى على الوعي، ويجور على الحق، ويتجاوزالحدود التي رسمها الله للعباد، ولا يكون له ضابط من العقيدة في الله، ومن الشريعة التي يسنها الله، ومنه كل منهج غير مستمد من الله، وكل تصور أو وضع أو أدب أو تقليدلا يستمد من الله، فمن يكفر بهذا كله في كل صورة من صوره، ويؤمن بالله وحده، ويستمدمن الله وحده فقد نجا، وتتمثل نجاته في استمساكه بالعروة الوثقى لا انفصام لها.

نسأل الله أن يرزقنا عبادته في السر والعلن، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق، والعصيان والطغيان، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


[1] إعلام الموقعين (1/50).

[2] [ الدرر السنية 1 / 161 ].

[3] [ تيسير العزيز الحميد : 34 ].

[4] [ مجموعة التوحيد : 500 ].