شرح حديث: ((إن الله يبسط يده بالليل))

شرح حديث: ((إن الله يبسط يده بالليل))

 

الحمد لله رب العالمين، الخالق الرازق، المتصف بصفات الكمال والجلال، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، قائد الغر المحجلين محمد بن عبد الله الصادق الأمين الذي أرسله الله تبارك وتعالى رحمة للناس، وآتاه الحكمة، وجوامع الكلم، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيماً؛ صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، أما بعد:

فإن المتأمل في كلام النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه كلام دقيق، قليل الألفاظ كثير المعاني لأنه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بُعثت بجوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، فبينا أنا نائم أُتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي)) رواه البخاري برقم (2815)؛ ومسلم برقم (523).

ومن هذه الكلمات العطرة ما أخرجه الإمام مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري رحمه الله في صحيحه قال: حدثنا محمد بن المثنى1 حدثنا محمد بن جعفر2 حدثنا شعبة3 عن عمرو بن مرة4 قال: سمعت أبا عبيدة5 يحدث عن أبي موسى الأشعري6 رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) رواه مسلم برقم (2759).

في هذا الحديث الشريف يبين النبي صلى الله عليه وسلم رحمة الله تبارك وتعالى بخلقه بأن فتح باب التوبة لكل من ظلم نفسه باقتراف الآثام، وهذا من كرم الله تبارك وتعالى أن يقبل التوبة حتى وإن تأخرت، فإذا أذنب الإنسان ذنباً في النهار ثم تاب في الليل فإن الله تبارك وتعالى يقبل توبته، وإذا أذنب في الليل وتاب في النهار فإن الله تبارك وتعالى يقبل توبته.

وفي هذا الحديث إثبات لصفة من صفات رب العزة والجلال سبحانه وهي صفة اليد، فإن له سبحانه يدان تليق بجلاله قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}(المائدة:64)، وقال: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}(ص:75)، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: ((إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)) رواه مسلم برقم (1827).

وهذه الصفة التي أثبتها الله تبارك وتعالى لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ يجب علينا أن نؤمن بها، وأنها ثابتة له تبارك وتعالى، لكن لا يجوز أن نتوهم أنها مثل أيدينا؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه الكريم: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}(الشورى:11)، وهكذا القول في جميع صفات الله تبارك وتعالى؛ لأنه تعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته، والقول في الصفات كالقول في الذات، فكما أن ذات الله تبارك وتعالى لا تشبهه الذوات فكذلك صفات الله تبارك وتعالى لا تشبه الصفات، بخلاف المعطلة من الجهمية الذين يعطلون صفات الله تبارك وتعالى، والمعطلة من الأشاعرةِ الذين يؤولون الصفات وقالوا: اليد بمعنى القدرة والنعمة، وهذا من الإلحاد في أسماء الله تبارك وتعالى، وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(الأعراف:180)، فأهل السنة والجماعة يثبتون الأسماء والصفات كما أثبتها الله تبارك وتعالى لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

وفي الحديث: ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار…)) حثٌّ للناس وإرشاد إلى التوبة لله تبارك وتعالى، ودليل على محبة الله تبارك وتعالى للتوبة والإنابة قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}(البقرة:222)، والله تبارك وتعالى يفرح فرحاً يليق بجلاله بتوبة عبده إليه كما روي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث ذكرني، وَاللَّهِ لَلَّهُ أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإذا أقبل إليَّ يمشي أقبلت إليه أهرول)) رواه مسلم برقم (2675)، وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل حمل زاده ومزاده على بعير، ثم سار حتى كان بفلاة من الأرض فأدركته القائلة فنزل فقال تحت شجرة، فغلبته عينه، وانسل بعيره، فاستيقظ فسعى شرفاً فلم يرى شيئاً، ثم سعى شرفاً ثانياً فلم ير شيئاً، ثم سعى شرفاً ثالثاً فلم يرى شيئاً، فأقبل حتى أتى مكانه الذي قال فيه، فبينما هو قاعد إذ جاءه بعيره يمشي حتى وضع خطامه في يده، فلله أشد فرحاً بتوبة العبد من هذا حين وجد بعيره على حاله)) رواه مسلم برقم (2745).

والتوبة هي الرجوع والإنابة إلى رب العالمين سبحانه، والتضرع بين يديه سبحانه، والاعتراف بالذنب قال الراغب رحمه الله: "التوبة في الشرع: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة"7؛ وقال الجرجاني رحمه الله: "التوبة الرجوع إلى الله بحل عقدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بكل حقوق الرب، والتوبة النصوح هي توثيق بالعزم على ألا يعود لمثله قال ابن عباس رضي الله عنهما: التوبة النصوح الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالبدن، والإضمار على ألا يعود، وقيل: التوبة في اللغة الرجوع عن الذنب، وكذلك التوب قال الله تعالى: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}(غافر:3)، وقيل: التوب جمع توبة والتوبة في الشرع: الرجوع عن الأفعال المذمومة إلى الممدوحة"8؛ وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بالتوبة إليه سبحانه، والفرار منه إليه قال الله تبارك وتعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}(الذاريات:50)، وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(التحريم:8)، وقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(النور:31)، ووعد سبحانه وتعالى بالقبول فقال جل جلاله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}(الشورى:25)، وفتح باب الرجاء لهم حتى لا يقنطوا فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }(الزمر:53)، فعلى من وقع في الزلل، وفرط في حق الله تبارك وتعالى؛ ألا تفوته الفرصة، وأن يتدارك قبل فوات الأوان.

وللتوبة شروط لا بد منها ذكرها العلماء هي كالتالي:

1- أن تكون التوبة خالصة لوجه الله تبارك وتعالى لا رياء ولا سمعة، وليست من أجل الدنيا؛ لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له سبحانه وتعالى.

2- الإقلاع عن المعصية.

3- الندم على ما مضى بحيث يكون الإنسان كلما تذكر ما حصل منه من الذنوب احترق قلبه ندماً وألماً على ما فرط في حق الله تبارك وتعالى فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الندم توبة))9.

4- العزم على عدم العودة إليها.

5- رد المظلمة إلى أهلها إن كانت دماً أو مالاً أو عرضاً، هذا إذا كانت متعلقة بحق آدمي.

6- أن تكون قبل بلوغ الروح الحلقوم وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر))10، أو قبل طلوع الشمس من مغربها لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)) رواه مسلم في صحيحه برقم (2703)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذاك حين {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ}(الأنعام:158)" رواه البخاري برقم (4359)؛ ومسلم برقم (157) قال العلامة الحافظ الحكمي رحمه الله في شروطها:

وتقبل التوبة قبل الغرغره        كما أتي في الشرعة المطهرة

أما متى تغلق عن طالبهـا       فبطلوع الشمس من مغربه11

فالله الله فقد جَعَلَ لك فرصة فأمدَّ في عمرك، وأعطاك الصحة، وأسبغ عليك نعمه الظاهرة والباطنة، ودعاك للتوبة أفلا تجيب؟

ناداك بقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ…} فهل من عودة صادقة؟

نسأل الله تبارك وتعالى أن يمنَّ علينا بطاعتة ورضاه، وأن يوفقنا للتوبة الصادقة النصوح إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه.


 


1 هو: محمد بن المثنى بن عبيد بن قيس بن دينار العنزى، أبو موسى البصرى الحافظ، المعروف بالزمن، تهذيب التهذيب (9/377) راو رقم (698) للحافظ أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، دار الفكر – بيروت، ط1 (1404هـ – 1984م).

2 هو: محمد بن جعفر الهذلي مولاهم، أبو عبد الله البصري، المعروف بغندر، صاحب الكرابيس، و كان ربيب شعبة، تهذيب التهذيب (9/84) راو رقم (129).

3 هو: شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم الأزدي، أبو بسطام الواسطي ثم البصري، مولى عبدة بن الأغر مولى يزيد بن المهلب، من كبار أتباع التابعين، تهذيب التهذيب (4/297) راو رقم (590).

4 هو: عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق بن الحارث الجملي المرادي، أبو عبد الله و قيل أبو عبد الرحمن، الكوفي الأعمى، روى له: الستة، تهذيب التهذيب (8/89) راو رقم (163).

5 هو: حميد بن أبى حميد الطويل البصري، أبو عبيدة الخزاعي ويقال السلمي و يقال الدارمي، روى له الستة تهذيب التهذيب (3/34) راو رقم (65).

6 هو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن الأشعر ، أبو موسى الأشعري صحابي جليل رضي الله عنه وأرضاه. تهذيب التهذيب (5/317) راو رقم (625).

7 مفردات غريب القرآن (1/76) لأبي القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة – لبنان.

8 التعريفات(1/95)، تأليف: علي بن محمد بن علي الجرجاني، تحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي – بيروت، ط1، 1405هـ.

9 رواه ابن ماجه في سننه برقم(4252)؛ وأحمد في المسند برقم(3568) وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح وهذا إسناد حسن، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، ط2، 1420هـ، 1999م؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم(3429)؛ وفي صحيح الترغيب والترهيب برقم(3146).

10 رواه أحمد في المسند برقم(6160) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن؛ وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم(3143).

11 معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول (1/41) للعلامة حافظ بن أحمد حكمي، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر، دار ابن القيم – الدمام، ط1 (1410هـ – 1990م).