ما سلككم في سقر

ما سلككم في سقر

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

في زحمة الخلائق يوم القيامة، وفي يوم العرض الأكبر على الباري – جل جلاله -؛ تشخص الأبصار، وترتعد القلوب، ويلجم العرقُ الناسَ إلجاماً، ويكون الملك يؤمئذٍ لله الواحد القهار، و((يطوي الله – عز وجل – السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟))1.

في هذا اليوم ينسى الخليل خليله، والقريب قريبه، والابن أباه {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}2، ولا ينفع المرء يومئذ إلا قلب سليم، وعمل وبقية صالحة كانت في الدنيا {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}3، وفي خضم هذه الأحداث تنتظر الخلائق الحساب والجزاء، وانتظار المقر والمستقر؛ أفي الجنة أم في سقر، فإذا دخل أهل الجنة الجنة واستراحوا، ودخل أهل النار النار واحترقوا؛ ينادي أهل الجنة أهل النار: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}4، ثم يجتمع أهل الجنة يتساءلون عن المجرمين، وعن مصيرهم ومأواهم، حامدين الله على نعمة النجاة من النار: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}5، وقال – سبحانه -: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}6، ويبتدرون بسؤال أهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}7 قال ابن كثير – رحمه الله -: "أي: يسألون المجرمين وهم في الغرفات، وأولئك في الدركات"8، وقال الشيخ السعدي – رحمه الله – في تفسيره: "أي: في جنات قد حصل لهم بها جميع مطلوباتهم، وتمت لهم الراحة والطمأنينة حتى أقبلوا يتساءلون، فأفضت بهم المحادثة أن سألوا عن المجرمين أي: حال وصلوا إليها، وهل وجدوا ما وعدهم الله – تعالى -؟ فقال بعضهم لبعض: هل أنتم مطلعون عليهم، فاطلعوا عليهم في وسط الجحيم يعذبون، فقالوا لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} أي: أي شيء أدخلكم فيها؟ وبأي: ذنب استحققتموها؟ فـ{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}، فلا إخلاص للمعبود، ولا إحسان ولا نفع للخلق المحتاجين"9، فكانت هذه أسباب دخولهم النار، والذي ألحقهم الخزي والعار.

فالسبب الأول: هو تركهم للصلاة، ومعلوم أن ترك الصلاة إثم عظيم، وجرم جسيم، كيف لا وقد قال الله – تعالى -: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا10، وعن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((أنه ذكر الصلاة يوماً، فقال: من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون، وهامان وأبي بن خلف11..

السبب الثاني: عدم إخراج الزكاة والصدقات: وفيما يخص الصدقات والزكاة فإنه كثيراً ما يقرن الله – تعالى – في القرآن الكريم بين الصلاة والزكاة، ولذلك رتب الله على ترك الزكاة العقوبة الشديدة في الآخرة يقول الله – تعالى -: {}12، وثبت عند البخاري من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه – يعني بشدقيه — يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ13 إلى آخر الآيةة14..

السبب الثالث: الغفلة، وهي من الأسباب التي ألحقت هؤلاء المجرمون دخول النار، إذ أنهم كانوا في خوض يلعبون، يخوضون مع الخائضين، ويغوون مع الغاوين فعن قتادة قال في قوله – تعالى -: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ15..

السبب الرابع: إنكار اليوم الآخر: فقد كانوا يكذبون بيوم الحساب والجزاء، ويظنون أنه ليس لهم موعدٌ مع الله – تعالى – لينالوا نصيبهم من العذاب تجاه تكذيبهم للرسل، وإيذائهم لهم، وإعراضهم عن الحق الذي جاءوا به، فضلوا على أمانيهم حتى أتاهم وعد الله، وأتاهم اليقين وهو الموت كما قال – تعالى -: {{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}16، وعندها لا مناص ولا مهرب من العذاب، فلا تنفعهم شفاعة الشافعين، لأنهم كانوا عن الذكر والتذكير معرضين، وعن الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله مستكبرين، فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في الطلب، وأقيموا الصلاة، وأحسنوا إلى الفقراء والمساكين بإخراج الزكاة، وأطيعوا الله ورسوله، واعلموا أنكم ملاقوه، وأنكم إليه تحشرون، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.


1 رواه مسلم برقم (2788) من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنه -.

2 سورة عبس (34-37).

3 سورة الشعراء ( 88-89).

4 سورة الأعراف (44).

5 سورة فاطر (34).

6 سورة الزمر (74).

7 سورة المدثر (42).

8 تفسير ابن كثير (8/ 273).

9 تفسير السعدي (1/ 897).

10 سورة مريم (59).

11 مسند الإمام أحمد برقم (6576)، وقال شعيب الأرناؤوط : إسناده حسن.

12 سورة التوبة (34-35).

13 سورة آل عمران (180).

14 رواه البخاري برقم (4289).

15 تفسير الطبري (24/37).

16 سورة الحجر (99).