أكلة لحوم البشر

 

 

أكلة لحوم البشر

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلام على النبي المجتبى، أما بعد:

ربما تورع بعض المسلمين عن أكل اللحوم المستوردة، وتوخوا أشد التوخي من ذلك؛ مخافة ذبحها على غير الطريقة الإسلامية – وهذا أمر يحمدون عليه -؛ إلا أن هناك لحوماًلطفت حتى خفيت على المتورعين، وتساهل في شأنها بعض الصالحين، وإن كانت غير مشاهدة صاروا ينهشونها على مرارتها وحرمتها.

 نعـم.. إنها لحوم البشر المأكولة .. بالغيبة.يقول سبحانه محذراً: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًاأَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات.

يقول ابن الحجر الهيتمي: “وكما أنه لا يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لا يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى؛ لأنه آلم، ووجه الآكدية في لحم أخيه أن الأخ لا يمكنه مضغ لحم أخيه فضلاً عن أكله”1، فتأمل كيف صورها القرآن بهذا البشاعة التي تقزز النفوس الكريمة، وتنفر الطباعالسليمة، وتأباها العقول.

يقول على بن الحسين – رحمه الله تعالى -: “إياك والغيبة فإنها إدام كلاب النار”.

ولفداحتها فقد تكاثرت الأدلة على تحذير التلبس بها، وبيان خطرها، فعن ابن مسعود –رضي الله عنه – قال: “كنا عند النبي   فقام رجل فوقع فيه رجل من بعده، فقال له النبي  : (تخلل)!!قال: مِم أتخلل؟ ما أكلت لحمًا قال: (إنك أكلت لحم أخيك)2.

وقد بين هادي البشرية   حدها بقوله: (ذكرك,أخاك بما يكره) سواء ذكرته بلفظك، أو في كتابك، أو رمزتَ، أو أشرتَ إليه بعينك، أو يدك أو رأسك، وضابطُه: كلّ ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم فهو غيبة محرّمة.

وتمعن كيف رد النبي  على عائشة قولها: حسبك من صفية تعني أنها قصيرة قال: (لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)3 فما أحقرها من كلمة في آذاننا، وما أسهلها على ألسنتنا، لكنها عند الله جريرةعظيمة.

ومن صور الغيبة الخفية على الناس ما ذكره الإمام النووي بقوله: “غيبة المتفقهين والمتعبدين فإنهم يعرضون بالغيبة تعريضاً يفهم به كما يفهم بالصريح، فيُقال لأحدهم:كيف حال فلان؟ فيقول: اللّه يُصلحنا، اللّه يغفر لنا، اللّه يُصلحه، نسأل اللّه العافية، نحمدُ اللّه الذي لم يبتلنا بالدخول على الظلمة، نعوذ باللّه من الشرّ، اللّه يُعافينا من قلّة الحياء، اللّه يتوبُ علينا، وما أشبه ذلك مما يُفهم منه تنقُّصه فكل ذلك غيبة محرّمة”.4

فتأمل يا رعاك الله:كيف شاعت بين المسلمين حتى صارت فاكهة مجالسهم، وسلوة حديثهم، واستباح قطاع عريض منهم الوقيعة في إخوانه، وإذا قيل له: اتق الله هذه غيبة قال بملء فيه: هذه ليست بغيبة، أنا لا أقول فيه إلا الحق، فحسبنا ما قال  : (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).

وليُعلم أن المستمع للغيبة شريك فيها، ولا يتخلص من سماعها إلا أن ينكر بلسانه، فإن خاففبقلبه، وإن قدر على  القيام أو قطع الكلام بكلام آخر لزمه ذلك، وليرتقب جزاءه جاء عن أبي ذر – رضي الله عنه – أن النبي   قال: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار).5

وتنبه ..فالغيبة شأنها عظيم، وخطرها جسيم، وعاقبة التمادي والتهاون بأمرها وخيمة أليمة، فعند أبي داود عن النبي  قال: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم) فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: (هؤلاءالذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم).6

وليحرص المسلم على أن يدفع عن نفسه كل سبب باعث على الغيبة سواء كان شفاء الغيظ، أوموافقة الأقران، ومجاملة الرفقاء، أو اللعب والهزل، وعليه أن يتدبر ويشتغل بعيوب نفسه، ويسعى أن يخلص لسانه من آفاته.

“فليس على ظهر هذه الدنيا شيء أحوج إلى طول حبس من لسان”، وليقل المسلم خيراً يغنم،أو يسكت عن شر يسلم.

وتأمل: فأنت تعاشر أقوامًا لا يُحصون كثرة: منهم القريب، ومنهم الصديق الحبيب، ومنهم الأستاذ، ومنهم الجار، فاحذر غدًا أن تراهم ماثلين أمامك بين يدي الله، ترى أحبابك وخلانك يطلبون رد مظلمة أعراضهم منك، نسأل الله أن يحفظ ألسنتنا من الغيبةوالنميمة، وسائر أقوال الشر، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


1 الزواجر لابن الحجر الهيتمي (2/200).

2 رواه أحمد في المسند، والطبراني، في المعجم وصححه الألباني.

3 رواه أبو داود وصححه الألباني.

4 -الأذكار للنووي (790).

5 رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.

6 رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني.