المؤامرة على الفتوى

المؤامرة على الفتوى

الشيخ محمد صالح المنجد

عناصر الخطبة :

1.    أخذ العهد على أهل العلم أن ينشروه ولا يكتموه.

2.    خطورة منصب الإفتاء، وأهمية قول العالم لا أدري فيما لا يعلم.

3.    حرمة الفتوى، وضياعها عند بعض المتأخرين.

4.    تلميع أصحاب الفتاوى الشاذة وأمثلة لبعض الفتاوى.

5.    الغرض من هذه الفتاوى الباطلة.

6.    عرض القضايا بلا ضوابط ولا قواعد، والكلام على حديث الرضاع.

7.    من أغراض الخلاف.

8.    الوفاء لدين الله.

 

الخطبة الأولى:

 إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

أخذ العهد من الله على أهل العلم أن ينشروه ولا يكتموه

فإن الله سبحانه وتعالى قد أخذ على أهل العلم العهد، أن يبلغوا دينه للناس وألا يكتموه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } سورة البقرة:159، وجعل الله أهل الذكر موئلاً للناس يستفتونهم ويرجعون إليهم في القضايا التي يتعرضون لها: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} سورة الفرقان:59، فعلى الخبراء المسؤولية الكبيرة في إرشاد الناس إلى أحكام الله تعالى، وهذا المفتي الذي يرشد الناس إلى الأحكام منصبه خطيرٌ جداً لأنه إنما يوقع عن رب العالمين؛ ولذلك ألّف أهل العلم في هذا الباب وفي خطورة هذا المنصب ومن ذلك "إعلام الموقعين عن رب العالمين".

 خطورة منصب الإفتاء، وأهمية قول العالم لا أدري فيما لا يعلم

إن خطورة منصب الإفتاء كبيرة جداً؛ ولذلك كان السلف يتدافعونها، وبعضهم أفتى بأن بعض من يفتي أولى بالسجن من السُرّاق؛ لأنهم يفتون بلا علم، أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان منهم مفتٍ إلا ودّ أن أخاه كفاه الفتيا؛ كما قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله تعالى.

عباد الله:

لقد كانت لفظة "لا أدري" معروفةً على ألسنة علمائنا، لا يستحيون من قولها، بل يقولها كبارهم كالإمام مالكٍ رحمه الله وغيره، وقال الشعبي والحسن: "إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر"(1).

 ولما سئل بعض العلماء عن مسألة وهو مالكٌ رحمه الله قال: "لا أدري، فقيل: هي مسألةٌ خفيفةٌ سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيءٌ خفيف"(2).

 إن هذا الموقف في الحقيقة هو انطلاقٌ من قوله تعالى في الترهيب من القول عليه بغير علم {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} سورة الأعراف:33، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } سورة النحل:116-117، وهذه من أخطر العقوبات: الافتراء على الله بلا علم، العاقبة شنيعة، لا يفلح، ومتاعه قليل وله في الآخرة عذابٌ أليم.

حرمة الفتوى، وضياعها عند بعض المتأخرين

عباد الله:

إن قضية الفتوى في الإسلام مقدسة، لا يدخلها إلا أهلها الذين توافرت فيهم شروطها، واليوم، العبث في الفتوى، المؤامرة على الفتوى، تضييع الفتوى، تمييع الفتوى، فضائياتٌ ومواقع لها تروج الفتاوى الباطلة، وتستفتي من هو حقيقٌ بأن يسجن، ويأتون إلى أنصاف المتعلمين لكي يروجوا كلامهم ويفسدوا الدين: نصف فقيه، كما يفسد اللسان نصف نحوي، كما يفسد البدن نصف طبيب، أنصاف هؤلاء، وربما ذهبوا إلى المشبوهين وإلى الجهال، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بقوله: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالا فأفتوا بغير علمٍ، فضلوا وأضلوا))(3)، ولما خلت كثيرٌ من الديار من أهل الثقة من المفتين تبوأ لهذا من لا يصلح للفتوى، وعمد المنافقون إلى إبراز وجوهٍ علميةٍ بزعمهم يستضافون ويستفتون، وتجرى معهم المقابلات، ويلمّعون، وينقل عنهم، ويُقصد المتساهلون بالذات؛ لأجل إماتة الدين وتحريف الشريعة؛ ولأجل خلق البلبلة في صفوف الأمة، وهكذا تصبح القضية قضية إثارة إعلامية وليست خدمة لدين الله، كلا والله! بل إن الهدف واضحٌ من هذه الخطة في تشويه الشريعة وتشويه دين الله ونشر الآراء الضعيفة وانتقاء الأقوال الشاذة، وهكذا تروج بين الناس علناً، وبأوسع وسائل الانتشار لكي يقول الناس: ما هذا الدين؟ ولأجل أن يقول الناس: ما هذه الأحكام؟ أين الصواب؟ ما هو الصحيح؟ هل هذا حق؟ هل يوجد كذا؟ فتحدث البلبلة، وهذا مقصود واضح، حرب على الدين وتشويه للشريعة، وبعض المغفلين يقولون: استغلال الثغرات في الفقه الإسلامي، سبحان الله! هل في الفقه الإسلامي ثغرات؟ الفقه القائم على الكتاب والسنة فيه ثغرات؟ لكن هؤلاء السذج الذين يريدون الدفاع بزعمهم فيصيبون الفقه في مقتل. ثغرات في الفقه الإسلامي؟ أتظنونه علماً دنيوياً وبقيت فيه بقايا غير مملوءة ومناطق غير مستكشفة ومعروفة، وحلق مفقودة؟ هذا دين من لدن الحكيم العليم، السميع الخبير، الذي أحاط بكل شيءٍ علما، ثم كذلك تنشر الفتوى على حسب الأهواء؛ فإذا كان هواهم في هذا ذهبوا يسألون ويستطلعون: من الذي يقول بهذا؟ لينشروا فتواه، القضية قضية هوى إذاً.

تلميع أصحاب الفتاوى الشاذة، وأمثلة لبعض الفتاوى

وهكذا تلميع أصحاب الفتاوى الشاذة بالمفكر الإسلامي والداعية الإسلامي والكاتب الإسلامي المعروف، المعروف عند إبليس، المعروف عند أعداء الدين. هذه طريقة واضحة جداً، وهي من خطط أعداء الإسلام التي نصوا عليها في دراساتهم ومراكز أبحاثهم: إحداث البلبلة بهؤلاء الأنصاف والشذاذ، وأهل الأهواء، والذين تدفع لهم الأموال، ويستغل أيضاً بعض المنتكسين في هذه الحرب ممن كانت لهم خلفية (إسلامية) سابقة؛ لكي يعطوا بعض ما عندهم في هذه الحرب على الشريعة.

النبي عليه الصلاة والسلام حذرنا من التمويه الذي يقوم به هؤلاء فقال: ((ليشربن ناسٌ من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها))(4)، ووُجد اليوم من يفتي بجواز بعض أنواع الخمر، وبجواز نكاح الكتابي المشرك من المسلمة، وأن هذا المنع يؤدي إلى إحداث شرخ في الجسم، جسم الأمة بزعمه، ولا بد من التآخي، ونحو ذلك، وأفتى من أفتى بإمامة المرأة لصلاة الجمعة، وجواز جعل الجمعة يوم الأحد، واقتضاء المصلحة للصلاة على الكراسي بلا حاجة، واللحية عبارة عن شعيرات بقيت أم ذهبت الكل واحد، وذبح الدجاج في عيد الأضحى حلٌ لقضية غلاء الأسعار، وهكذا صارت المسألة في قضية التلاعب بالطلاق أيضاً لأجل ألا يضيع الأولاد، ولو كانت ثلاث طلقات واضحة؛ ولئلا تتشتت الأسرة، وهكذا زلات إثر زلات، وهؤلاء يزل بهم الناس إذا أخذوا عنهم، وقضية سؤال من هب ودب، والاتصال على من هب ودب لأن المقال لا بد أن يخرج في الجريدة، فأين الغيرة؟

لما دخل مالك على شيخه ربيعة فوجده يبكي، قال: ما يبكيك؟ أمصيبة نزلت بك قال: لا، ولكن استُفتي من لا علم له، ووقع في الإسلام أمرٌ عظيم، ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السُرَّاق"(5)، وقال ابن مفلح رحمه الله: "يحرم التساهل في الفتيا، واستفتاء من عرف بذلك"(6).

ثم استدراج العامة في القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية لهذه القنوات وإيقاعهم في البلبلة والحيرة والاضطراب والتندر على الأحكام الشرعية، وهكذا يقولون ضاحكين متندرين، وأكثر خبر طباعةً, وأكثر خبر إرسالاً بالأيميل، وأكثر خبر ترويجاً. لماذا؟ لقضية تافهة، يثيرها من يعين هؤلاء سواءً بسذاجة: مسكين يضحك عليه، أو بتعمد يتواطأ معهم، وأن الموظفات إذا أرضعن زملاءهم الموظفين فإن قضية الاختلاط في العمل تنحل بهذا، وأنا أقول تنحل ويحدث الانحلال، إنه الانحلال المقصود، الانحلال من الدين، انحلال الأخلاق، فشو الرذيلة، وتأمل وتصور في هذه المسخرة والمضحكة والمهزأة عندما يتقاطر كل واحدٍ على ثدي الموظفة، أي هزءٍ هذا وتلاعب بدين الله، والربا ضرورة عصرية، والموسيقى الكلاسيكية الهادئة كذا، وجواز الاقتراض بالربا لبناء بيت، وأكثر من نصف العالم مستأجرين وأمورهم ماشية، وسندات الخزينة، فتاوى، إباحات من كل جانب، وعلى الحجاب، صلاة المرأة عارية في الظلام في الفتاوى الصوفية الباطلة، وهكذا من الترَّهات الكثيرة التي تثار واحدة تلو الواحدة، وكلما هدأت واحدة أثيرت واحدة، ضلالات بعضها في إثر بعض، فما الغرض أيها الإخوة؟

الغرض من هذه الفتاوى الباطلة

تزهيد الناس في الفقه الإسلامي، تشويه سمعة الأحكام الشرعية، جعل الناس متحيرين لا يعرفون أين الصواب، غموض في الأسئلة وهشاشة في الإجابات، ركاكة في العبارات، المقصود غير واضح، وانحرافات في إثر انحرافات، وعمت البلوى بذلك في أنحاء العالم العربي والإسلامي، والانتقادات من كل جانب، وتجرئة الناس على انتقاد الأحكام؛ لأن الخبر لما يوضع يُتاح المجال للتعليق، فيدخل فيه كل أحد ممن هب ودب، ويعلق على الفتوى، من هو حتى يعلق على الفتوى ويذكر رأيه؟ الكل يذكر رأيه، لماذا لا تذكر الآراء؟ ألسنا في عصر الحرِّيَّة؟! تذكر رأي في ماذا؟ في قضية شرعية، الله سبحانه وتعالى تعبّد بها الأمة، تعبّد بها الناس، الرضاع له أحكام، ليس فوضى، له ضوابط،الرضاعة من المجاعة والرضاعة في الحولين، قضايا كبيرة، ولكن من الذي يفقه لهذا؟ ثم نجد اجتزاء الفتاوى على طريقة: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} سورة الماعون:4 ويسكت، ثم قضية وضع عناوين للإثارة فوق الخبر. فالسؤال ما هو؟ هل يجوز للمرأة أن تذبح أضحيتها بيدها؟ فيقول: نعم يجوز للمرأة أن تذبح أضحيتها بيدها، ما هو العنوان؟ العنوان من الأعلى: يجوز ذبح المرأة، أو: ذبح المرأة جائز. منشيات عريض في الجريدة، ذبح المرأة جائز، انظروا إلى تلاعب أصحاب منشيتات، وهؤلاء بدين الله والهزء بدين الله وجعل الناس يثورون على دين الله وهذه العناوين بعض الناس مشغول، لا يتفرغ إلا لقراءة العناوين، ثم إن هنالك قضايا دقيقة في الفقه الإسلامي، هذا معروف جداً، ولذلك أئمة الشريعة والدين والخلفاء الراشدين ومنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن آل النبي أجمعين يقول: "حدّثوا الناس على قدر عقولهم، أتريدون أن يُكذب الله ورسوله؟"(7)، وابن مسعود يقول أيضاً: "ما أنت بمحدّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"(8)، فهناك قضايا في الفقه الإسلامي تحتاج إلى عمق، تحتاج إلى دراسة، تحتاج إلى بحث، تحتاج إلى رسوخ في العلم، الراسخون في العلم يعرفونها، لكن عندما يروّج بين الناس إرضاع الموظفة وزميلها الموظف جائز بناءً على حديث سالم في رضاعه من أمّ حذيفة التي كان يشق عليها كذا وكذا، من سيفهم؟ فيقولون: هذا حديث صحيح، وبناءً عليه اعمل، تصور عندما يكون العمل هكذا على هذه الطريقة، حدثوا الناس على قدر عقولهم، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ كيف تعرض مثل هذه المسألة على العامة، ومتى تعرض وبأي شكلٍ وبأي سياقٍ وكيف تشرح وما هو مدخلها؟ هذا عند هؤلاء الذين يشتغلون بالإعلام وتضليل الناس لا قيمة له إطلاقاً، أحدث الإثارة وفجّر هذه القنبلة الإعلامية، وليتحدث الناس بكلامك الذي أثرته، هذا هو المهم، أثرت خيراً، أثرت شراً، أثرت مصيبةً، ما عندهم في هذا أي حدود ولا ضوابط ولا توقف. نفاق على استهزاء وسخرية على جهل، هذه هي النتيجة، ومنابر إعلامية ضخمة توزع الخبر شرقاً وغرباً، هذه فتنة، قرب الدجال، اللهم إنا نسألك أن تثبتنا على دينك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا بدينك مستبصرين، نعوذ بك من مضلات الأهواء، ونعوذ بك من سوء الأعمال والأقوال. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن خلفائه الميامين، وذريته الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

عباد الله:

عرض القضايا بلا ضوابط ولا قواعد، والكلام على حديث الرضاع

عندما تعرض القضايا بلا ضوابط ولا قواعد ولا يؤسس الفقه عند الناس، ولا يقال: عمدة هذه المسألة قوله تعالى كذا، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم كذا، عمدة الباب من أبواب الفقه كذا، الرضاعة في المجاعة، ولا رضاعة مؤثر بعض الحولين، وبعد ذلك عندما يورد حديث فيقال: هذا حديث رضاع سالم مولى أبي حذيفة، هل هو منسوخ كما قال بعض العلماء بما استقر عليه العلماء بأن رضاع الكبير لا يؤثر، وأن الرضاع المؤثر هو ما كان في الحولين فقط، وهذا قول جمهور أهل العلم من السلف والخلف والأئمة الأربعة، أم هذا حديث مخصوص حادثة عين لا عموم لها؟ وجاءت أمثلة لذلك في ترخيص لبعض الصحابة بأشياء مثل من رخص له في سن معين في الأضحية وقال له عليه الصلاة والسلام: ((ولا تجزئ عن أحدٍ بعدك))(9)، وفيها مناقب لبعض الصحابة، وهو خاص لا عموم له، أم أنه يُعمل به في حالاتٍ معينةٍ إذا بلغ الحرج مبلغاً عظيماً؟ أقوال العلماء في المسألة ومعلوم قول جماهير العلماء من السلف والخلف أن الرضاع لا يؤثر إلا إذا كان في الحولين، لكن ليست القضية الآن قضية سياق أقوال أهل العلم وماذا قالوا في حديث سالم، سبحان الله، هؤلاء الذين يثيرون الكلام لا يدرون عن حديث عمر بن الخطاب قبل حديث سالم. حديث عمر: ((إنما الأعمال بالنيات))(10) ولا عن الأحاديث الأخرى التي يجب أن تُشرح للناس: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد))(11) الخ، من جوامع الدين. لكن أين يوجد المشكل؟ أين النص الذي يشكل على الناس؟ أين النص الذي فيه كما قال الله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} سورة آل عمران:7، المؤمنون ماذا يتبعون؟ يتبعون المحكم، وأهل العلم يردون المتشابه إلى المحكم فيُعلم تفسيره وشرحه والمراد منه، المنافقون ماذا يفعلون؟ يتجهون إلى المتشابه، مباشرةً، لا محكم. المتشابه، الذي يُشكل، فيثيرونه، ويهولونه، ويضخمونه، ولو ردوه إلى أهل العلم {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} سورة النساء:83 لكن يردونه إلى أنصاف، وأرباع، وجهلة، وإثارات ويبنون عليه أشياء، القضية أصلاً: يا أيها الناس، هل يجوز الاختلاط أصلاً في بيئات العمل؟ وهل تجوز الخلوة بين المدير والسكرتيرة شرعاً، فأولاً افترضوا الحرام، الباطل، الانحراف، فرضاً وأمراً واقعاً، ثم قالوا: كيف الحل لهذا؟ في حديث سالم، تعال، موظفة ترضع الموظف. سبحان الله، هزء، سخرية، نقول لهم: يا أيها الأغبياء أو المتغابون، يا أصحاب الغباء المتعمد أو الذي فيه هذا أصلاً، لا يوجد مشكلة أصلاً؛ لأن شرع الله أنه لا يجوز اختلاط الجنسين في أماكن العمل والمكاتب، الأشياء الضرورية كما يحدث في السوق، في الحرم في الطواف التي لا مفر منها هذه أشياء طارئة مؤقتة ليست دائمة وشيءٌ لا يمكن تلافيه، لكن أماكن العمل يمكن تلافيه ويمكن فصل الجنسين، ويمكن أن يكون هنالك تصاميم داخلية للمباني وخارجية تفصل الجنسين، ويمكن التعاقد ويمكن جلب الطاقات البشرية اللازمة. ويمكن عمل أشياء كثيرة، والتقنيات في الفيديو كونفرنس وغيرها من الأشياء التي تحل مشكلات الاختلاط لا تستعمل عمداً مع أن التقنية تخدم في هذا الجانب في أشياء، ولا تظهر صورة المرأة، ويصل الصوت، وتصل صورة الاجتماع، ويمكن أن نحدث أشياء كثيرة، لكن أهل هوى وشهوات، ماذا تريد منهم؟ هم يريدون تفجير الشهوات، واحد عنده سكرتيرة متجملة متطيبة متعطرة، هذا الدعي وهذا المنافق لما يقول: حل مشكلة الاختلاط في العمل، طيب أصلاً لماذا وضعت النار مع البنزين؟ لماذا أصلاً جعلت الاختلاط أصلاً؟ لماذا قررته؟ لماذا أعلنته؟ لماذا جعلته مشرعاً؟ ثم تقول: الحل للمشكلة، سبحان الله، وهل هذا حل أصلاً؟ ثم والله يا إخوان إنه شيءٌ مؤلم جداً، الواحد أحياناً يتحامى من أجل الشريعة والدين ثم يرى تلاعب المنافقين بهذا ويرى التلاعب بالناس، وتعمد زرع الفتنة، تعمد بذر الخلاف،التركيز على الخلافات الفقهية وتضخيم القضية، معلوم أن الله سبحانه وتعالى فاوت بين أفهام العلماء، ومعلوم أنه يكون هناك خلافٌ بين أهل العلم؛ ولذلك أصّل العلماء القضية وذكروا أسباب الخلاف وكيف أن بعضهم يرى الحديث صحيحاً والآخر ضعيفاً أو يختلفان في فهم النص أو لا يصل النص إلى بعضهم أصلاً، أو يظنه بعضهم ناسخاً والآخر منسوخاً، ونحو ذلك من الاحتمالات القائمة في مسائل معينة.

من أغراض الخلاف

ولكن الخلاف من سياستهم إثارته؛ لبلبلة الأمة، ثم يأتون إلى أشياء، يؤكد على حديث الذبابة إذا وقعت في الشراب، وقضية أبوال الإبل، شرب أبوال الإبل؛ للعلاج ونحو ذلك لتعطى القضية ضخامة؛ لأن بعض الناس عندهم اشمئزاز من ذلك، الشرع هو ما يقول لك: يجب أن تشرب أبوال الإبل، ويجب أن تغمس الذبابة، لا، لكن إذا أردت أن تشرب بعد ما وقع الذباب تغمسه، قد يكون عنده فقر ربما لا يجدون شراباً آخر، أنت تعطيه الآن لِقِطّةٍ تشربه ولا تجبر شرعاً على غمس الذباب، وبول الإبل علاج، ثبت في السنة أنه علاج، لكن الذي لا يريد أن يتعالج بهذا العلاج لا يجبر عليه، إذا كانت نفسه تعافه لا يجبر عليه، لكن بعض الناس مستعد في حالة المرض الشديد أن يتحمل العلقم والمر وأصعب العلاجات من أجل أن يخرج من الآلام التي يعاني منها، لكن هؤلاء، هكذا بالخط العريض: والتبرك ببول،! يعني المسألة هي واضحة جداً في قضية هجمة شرسة على الدين، هجمة شرسة على الأحكام، على الفقه.

الوفاء لدين الله

عباد الله:

ويبقى في النهاية المسلم وفياً لدين الله، يتعلمه، يأخذ قواعده، يعمل به، يستفتي الثقات، يرد المتشابه إلى أهل العلم، يكافح هؤلاء المنافقين وهؤلاء الضالين، ويغلق باب الحيل وباب الهوى، ويرفض الفتاوى الشنيعة والسيئة، يرفض هذا العبث، يرفض نفث السموم، يقف حائلاً أمام هذا، يسد الباب، يعرف المخطط ويقاوم هذا الشغب على أحكام الشريعة، ويحذر وينذر وينصح، ونعلم الأولاد، نعلم الذكور والإناث، المسألة الآن يا عباد الله كبيرة وتحتاج إلى صد، هذه هجمة شرسة تآمر على الفقه والأحكام، وزعزعة ثقة الناس بالشريعة، والمؤمن كيس فطن وواعي، والحمد لله الأمة تملك طاقات عظيمة فقهية، وشرعية، وفاعلة، وداعية، ومؤثرة، وإن كان هؤلاء أهل النفاق يريدون حجبها وإبراز الأقوال الضعيفة وأصحاب الشذوذات، بل الذين هم من المشبوهين؛ ليستفتوا وتكون لهم شعبية ولأقوالهم رواج، لأنها قضية حرب على الإسلام،هم أذنابٌ ينفذون ما يقوله أسيادهم ويضعونه لهم ويغشون الأمة،ولا يبالي بدخول جهنم، أن يعذب في الدنيا قبل الآخرة، القضية ما دام حقق ما يعطى من أجله مالاً، أو حقق شهرةً، أو حقق هدفاً للعدو فأثنوا عليه فعنده مدح هؤلاء الذين جعلوه في هذا المكان، هذا غاية المنى! ونذكّر أيضاً أولياء الأمور في هذه الأيام بأن المحافظة على أولادنا ذكوراً وإناثاً من الأمور المهمة؛ لأن التفلت يبدأ في الدوام في المدارس في الأيام قبيل الاختبارات، ويحدث في ذلك من أنواع المحرمات سواءً وقوع في الفواحش بأنواعها سواءً كانت زنا أو لواط، أو كذلك تعاطي المخدرات، والتشفيط والتفحيط، والأشياء التي فيها إضرار بالناس وأمن الناس وطرقات الناس وأبناء الناس وبنات الناس شيء كثير، ويعاني المدرسون في ضبط طلاب المدارس في هذه الأيام فلا بد أن يكون الجميع عوناً لهم؛ لئلا يحدث التسرب إلى الشوارع وإلى الأماكن المشبوهة، وترتكب جرائم في الأيام قبيل الاختبارات كما هو واضح ومعلوم من سيرة بعض الطلاب.

اللهم إنا نسألك الأمن في البلاد، والنجاة يوم المعاد، اللهم إنا نسألك أن تخفف حسابنا، وتثقل موازيننا، وتبيض يوم العرض عليك وجوهنا، وأن تؤتينا صحائفنا بأيماننا، اللهم اجعلنا جنداً لدينك يا رب العالمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم من أراد بلدنا هذا بسوءٍ أو أمنه أو دينه وإيمانه بسوءٍ فامكر به، واجعل كيده في نحره، اللهم من أراد الفقه بشرٍ فاجعله عبرةً ونكالاً يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تنصر دينك، وأن تحيي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم في العالمين، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

 


 


(1) انظر: سير أعلام النبلاء، للإمام الذهبي (5/416)، وإبطال الحيل، لابن بطة (62).

(2) انظر: بدائع الفوائد، للإمام ابن القيم (3/793).

(3) رواه البخاري، برقم (100)، ومسلم برقم (2673)، من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(4) رواه أبو داود برقم (3688)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، والنسائي برقم (5658)، وابن ماجة، برقم (4020)، وأحمد في المسند برقم (22900)، وقال محققوه: صحيح لغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (414)، وفي صحيح الجامع برقم (9584).

(5) انظر: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح(1/20)، والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر(3/5).

(6) المبدع في شرح المقنع، لابن مفلح  (10/25).

(7) ذكره البخاري في صحيحه برقم (127).

(8) ذكره الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه بإسناده(ص10).

(9) رواه البخاري برقم (912)، وبرقم (925)، وبرقم (5225)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ومسلم، برقم (1961).

(10) رواه البخاري برقم (1)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومسلم بلفظ: ((إنما الأعمال بالنية)) برقم (1907).

(11) رواه البخاري برقم (2550)، ومسلم برقم (1718)، عن عائشة رضي الله عنها ولفظهما: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)).