بيع أوقاف المسجد

بيع أوقاف المسجد

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أما بعد:

فإن الوقف في اللغة: الحبس والمنع، ومن هذا قولهم: وقف الرجل بستاناً، أي حبسه، وجعله موقوفاً في سبيل الخير، ومن هنا جاءت تسمية الأوقاف في شمال أفريقية باسم: الحبوس.

تعريف الوقف:

الوقف ملك أو مخصّصات توهب هبة أبدية، لتهيئ دخلاً لخدمة عامّة، أو خدمة دينيّة ترضي الله، وعرّفه الإمام مالك بأنه: حبس العين عن ملك الوقف، فلا يزول عنه ملكه، لكن لا يباع، ولا يورث، ولا يوهب، وعرّفه الشيخ محمد أبو زهرة بأنه: قطع التصرف في رقبة العين التي يدوم الانتفاع بها، وصرف المنفعة لجهة الخير، وعرّفه ابن قدامة الحنبلي بأنه: تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة.

وفرّق الشيعة الجعفرية بين الوقف والحبس، فالوقف عندهم يعني زوال ملك الواقف عن العين الموقوفة، أما الحبس فهو يبقي العين على ملك الحابس، وعرّفوا الوقف بأنّه: تحبيس العين وتسبيل المنفعة1.

الدافع إلى الوقف:

تحقيق طاعة الله، والتقرّب إليه سبحانه وتعالى.

إدارة الوقف:

يفقد الرجل الذي يبني مسجداً ملكيّته له بمجرد الصلاة فيه، فتنتقل مسؤوليّة إدارته إلى الوقف، فمن يدير الوقف؟

يدير الوقف موظف يدعى الناظر، يرأس لجنة من المتولّين، ويعتبر مسئولاً أمام الحكومة، فإذا كان الوقف كبيراً أصبحت المسؤوليّة واسعة، وتتطلّب تفرّغاً كاملاً من جانب عدد من الموظفين، وتشكّلت في معظم الدولة الإسلاميّة وزارة تابعة للدولة أطلق عليها "وزارة الأوقاف" تقوم بتنمية واستثمار أموال الأوقاف، وصرف فوائدها.

الوقف تضامن وتعاون وتراحم:

شكّل نسيج المجتمع الإسلامي المتين طبقة اجتماعية واحدة، بثّ الإسلام فيها روح التضامن والتعاون والتراحم، وقرّب الفوارق الاجتماعية بينها، وألغى الطبقيّة، والاستعلاء القومي والعنصري الذي ظل ينخر في مجتمعات الجاهليين دهراً، ولا يزال، وساوى بين الجميع في الحقوق والواجبات، ونشر مظلّة العدل والخير والإحسان، فاستظل بأفيائها الأغنياء والفقراء، والمساكين والمعوزين سواء كانوا من المسلمين أم من أهل الأديان، أم من المستأمنين والمعاهدين، وعني بأولي الضرر، والزمنى، والضعفى، واليتامى، وسعى لتوفير القوت للجياع، والدواء للمرضى، والعلم المجّاني لكل أفراد المجتمع.

وحثّ الإسلام الأغنياء على البذل والعطاء، والتقرب إلى الله بإغناء الفقراء عن المسألة، وأثنى على المنفقين الذين يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، ووعد الله الممسكين عن الإنفاق من مال الله الذي آتاهم بالتلف والعذاب خشية أن يصبح المال دولة بين الأغنياء، وخوفاً من اتساع الهوّة بين أبناء المجتمع الواحد، ودعا النفس الإنسانية إلى الانتصار على بواعث الخوف من الفقر فقال – تعالى -: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}2.

وفرض للفقراء في مال الأغنياء: الزكاة والصدقات، والكفارات والخراج، وعلى أهل الذمّة الفيء، وأعلن في صراحة ووضوح: أن ذمّة الله بريئة من الشبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم، وجاءت الشريعة الإسلامية حرباً لا هوادة فيها على الذين يحبّون المال حبّاً جماً، ويأكلون التراث أكلاً لمّـاً، وتنديداً بالمرابين الجشعين الذين يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة، وأعطت الخليفة الحق في محاربة الممتنعين عن دفع الزكاة، وتحدّث البعيد قبل القريب عن المؤسّسات الاجتماعيّة التي شيدها الإسلام في واحة مجتمعه الرشيد، وكانت من مبتكرات حضارته الزاهية وفي مقدّمتها مؤسّسة الوقف، وأشادوا بأهميّتها في حفظ التوازن داخل المجتمع الإسلامي، وإزالة التناقضات، وتقريب الفوارق بين الطبقات.

وعندما شعر المسلمون بأهميّة المشاريع الوقفيّة أقبلوا على حبس العقارات والأراضي والأموال في وجوه البر، وهذه عادة حميدة، وشرف دائم، وفخر مستمر؛ قلّ وجودها في غير المجتمعات الإسلاميّة.

وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح المنجد – حفظه الله – عن هذا  حيث قال السائل:

ما حكم بيع برادة ماء كبيرة وضعت بجانب المسجد من الخارج تبرع بها أحد الأشخاص وقفاً للمسجد، ولم يستفد منها، وإنما هي معطلة، ولم يشرب منها أحد، وذلك لوجود برادة داخل المسجد، فيشرب منها الناس وتركوا الخارجية، فما الحكم في بيعها، وأخذ القيمة وصرفها على متطلبات المسجد واحتياجاته، أو نقلها لأحد الأماكن ليتم الاستفادة منها وذلك في حالة عدم بيعها؟ سوف تنقل لمكان يتجمع الناس فيه: "كوحدة عسكرية مثلاً".

الحمد لله:

يجب مراعاة قصد الواقف وشرطه، فلا يجوز التصرف في الوقف بخلاف ما قصده الواقف أو شرطه إلا عند الضرورة لذلك، ومن الضرورة: أن يتعطل الوقف فلا يستفاد منه، وحينئذ ينقل إلى أقرب شيء يشابه ما قصده الواقف.

فما دامت هذه البرادة وقفها صاحبها على المسجد، ولم يمكن الاستفادة منها في ذلك المسجد بعينه؛ فإنها تنقل إلى مسجد آخر يمكن الاستفادة منها فيه، فإن لم يوجد مسجد يحتاج إليها فإنها تنقل إلى أي مكان يحتاج الناس إليها فيه كالوحدة العسكرية أو غيرها، وعلى هذا فلا تنقل إلى الوحدة العسكرية إلا إذا لم يوجد مسجد يحتاج إليها.

وقد سئل الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله -: هل يجوز نقل الوقف على المسجد مثل الدولاب إذا ضيّق على المسجد وإذا لم يكن للمسجد حاجة إليه؟

فأجاب: "نعم، يجوز نقل الوقف إذا كان ذلك أصلح، فإذا استغني عن شيء بالمسجد كفراش أو دولاب أو غيره نقلناه إلى مسجد آخر بعينه إذا أمكن، وإن لم يمكن قمنا ببيع هذه الأشياء، وأنفقنا ثمنها على المسجد، أما إذا كان من الأوقاف فإن الأوقاف هي التي تتصرف في ذلك، وتفعل ما هو الأصلح" انتهى."لقاءات الباب المفتوح" (168).

أما بيعها فلا يجوز ما دام يمكن الاستفادة منها في مكان آخر، لأن الواقف إنما قصد نفع الناس بهذا الماء البارد فلابد من مراعاة هذا القصد.

والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.


1 الوصايا والأوقاف في الفقه الإسلامي ص 143و 169 محمد كمال الدين إمام.

2 – البقرة (286).