الرجولة

 

الرجولة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّإِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}1 ،{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}2 ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}3 .. أما بعد:

تختلط المفاهيم عند كثير من الناس فلا يدرى الحق من الباطل، ولا الخير من الشر،وأصبح الحال كما يقال: “اختلط الحابل بالنابل”، واليوم نتكلم عن مفهوم لابد أن يتجلى لكل مسلم لأهميته، وحاجة الناس إليه؛ إنه مفهوم “الرجولة”، المفهوم الذي فقد هويته عند كثيرٍ من المسلمين، فكلٌ يُلبسه اللباس الذي يريد، ويصبغه بالصبغة التي يراها، حتى غدا غامضاً لا يعرفه إلا القليل، وقد يتساءل البعض: لماذا الحديث عن الرجولة؟

فالقول وبالله التوفيق هو: أن الأمة هذه الأيام هي أحوج ما تكون إلى الرجال، وبخاصة في هذه الأيام التي تبحث فيها الأمة عن عزتها ومكانتها التي كانت عليها، والأمم لا تقوم إلا على أكتاف الرجال، وقد فقه لذلك أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه – كما ذكر أبو الفرج ابن الجوزي – رحمه الله تعالى – في صفة الصفوة إذ يقول: “وعن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه قال لأصحابه: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءةً ذهباً؛ أنفقه في سبيل الله – عز وجل -، ثم قال:تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءةً لؤلؤاً، وزبرجداً أو جوهراً؛ أنفقه في سبيل الله – عز وجل -؛ وأتصدق به، ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين! فقال عمر: أتمنى لو أن هذا الدار مملوءةً رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح”4 .! وهذا ما نتمناه جميعاً، فأننا نعلم من هو أبو عبيدة، رجل بمعنى الكلمة، تهفو لمثله القلوب، وتحتاجه وأمثاله الأمة ليأتي النصر، ويكتب الله الفرج، لكن السؤال الآن: هل الرجولة التي كان يعرفها عمر – رضي الله عنه – هي الرجولة التي يفهمها كثيرٌ من المسلمين؟

إننا إذا نظرنا إلى معنى الرجولة اليوم فسنرى أن من المسلمين من يفهم الرجولة على أنها القوة على جمع المال من حلال أو من حرام؟ فالمهم عنده أن يوفر المال الكثير سواء جاء هذا المال من الأموال الربوية، أو من الرشوة، أو أتى من بالكذب والبهتان،وأكل أموال الناس بالباطل، لا يهم ذلك، المهم أن يأتي المال، وتراه يتصرف في هذا المال كما يشاء بلا رقيب ولا عتيد!

ومن الناس من يرى أن الرجولة هي الجاه والسلطان، فيحرص كل الحرص على أن يحوز المراتب العلية، والمناصب الراقية، ويبذل لذلك كل حياته، فإذا ما بلغ مراده تراه في بطش وكبر، وتغطرس وظلم، ويرى نفسه بذلك رجلاً يحسده الناس على ما يفعله.

ومنهم من يرى أن الرجولة هي القوة الجسدية، وانتفاخ العضلات، فتراه في استعراض دائم، لا يكل منه ولا يمل، نسي روحه واهتم بجسده، وإنما يسمى إنساناً بروحه لا بجسده

يا متعب الجسم كم تسعى لراحـته   أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح فاستكمل فضائلهـا فأنت بالـروح لا بالجسم إنسان

وأن يكون همك هو جسم تغذيه وتنميه، ثم لا يجد الناس منك إلا الأذى والتعدي، تظلم هذا، وتضرب هذا، وتجرح هذا، وتدمي ذاك؛ فهذا ظلم للرجولة والرجال.

 

وآخرون يرون الرجولة هي القدرة الفائقة على الشهرة، وانتشار السمعة في الدنيا، ولا يهم بعد ذلك أكانت الشهرة في خير أم في شر المهم: كيف أشتهر؟ ويضرب مثلاً لذلك الذي يخرج من بيته عارياً؛ ليس لسببٍ إلا ليقال خرج عارياً إلى الشارع فيشتهر، أو يسبح في مستنقع من القاذورات لكي يشتهر!!.

وتتوق نفسه إلى ما وصل إليه الفنان الفلاني، واللاعب الفلاني، والممثل الفلاني؛ فهم عنده أصحاب سبق في الرجولة لأنهم حققوا من رصيد الشهرة الشيء الكثير!!.

وغير ذلك من تأويلات خاطئة لمفهوم الرجولة مما تستنكره الفطر السليمة، وتستقبحه العقول المستنيرة، فدعنا من كل ذلك، ولنذهب إلى الأصول المتينة لنأخذ عنها ثقافتنا،ونفهم بها حياتنا، وإن من أعظم هذه الأصول: كتاب الله وسنة رسوله   فعن مالك بن أنس – رحمه الله تعالى – مرسلاً قال: قال رسول الله  : ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما:كتاب الله، وسنة رسوله))5 .

وقد جاءت كلمة الرجولة في الكتاب والسنة لتدل على معاني عظيمة وصفات سامقة سنأتي على ما تيسر منها مبتدئين بالكتاب الكريم، ثم بالسنة النبوية المطهرة:

أولاً: بعض صفات الرجولة في القرآن الكريم:

1- الطهارة بشقيها الحسي والمعنوي قال – تعالى –: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}6 ، تراهم قد طهرت مظاهرهم من النجاسات والقاذورات، ترتاح الملائكة لمجالستهم والمكوث معهم، فتجد عندهم الطيب والروائح الزكية، والنظافة الجسدية، ولا تجد في قلوبهم إلا حب الخير للغير، فلا حقد ولا حسد، ولا غيبة ولا نميمة، قد خلصت قلوبهم من كل ذلك، فلم تُدنَّس بشرك ولا رياء، بل أخلصت لله رب العالمين، فهي قلوب خالصة كلها صفاء ونقاء.

2- الصدق مع الله يقول – تعالى –: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}7 ، فلم يكن من عهد بينهم وبين الله – عز وجل – إلا وفوا به، فهم ثابتون على مبادئهم، لم يبدلوا ولم يغيروا، وهذه صفة عظيمة يتصف بها الرجال، ويتحلى بها أولوا النهى من الأبطال.

3- هم في أهل بيوت الله يقول – تعالى -: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}8 ، فسماهم رجالاً، وذكر من صفاتهم أنهم من أهل المساجد، المحافظون على الجماعات، ممن لا يشغلهم أي شاغل عما أراد الله – عز وجل – منهم، فلا ينقصون في واجب، ولا يفرطون في فرض.

4-  إيثار الآخرة على الدنيا قال الله – عز وجل -:{رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}9 ، فإن حصل التعارض بين الدنيا والآخرة فما أسرع أن تجدهم منطلقين إلى الله، مصلحين لآخرتهم، تاركين الدنيا وراء ظهورهم، دافعهم في فعل ذلك أنهم يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.

5- القوامة وحسن التوجيه لبيوتهم وذويهم قال – تعالى –:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَاأَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } 10  قال ابن كثير – رحمه الله تعالى -: “أي: الرجل قيم على المرأة أي: هو رئيسها وكبيرها، والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت” 11 ، فهو راعٍ في أهل بيته ومسئول عن رعيته، مسئول عن كل فرد في البيت، عن أبنائه ماذا يصنعون؟ وأين يقضون أوقاتهم؟ ومع من يسيرون؟ وبأي لباس تخرج الزوجة؟ وما القنوات التي يشاهدونها؟ مع الاهتمام بالنفقة وما يحتاج الأهل مما يقدرعليه.

فكل هذا مطلوب من الرجل الذي يطلق عليه “رجل محسن في قوامة أهله وذويه”.

6- مناصرة الحق الذي جاء به الأنبياء والرسل، وأهل الدعوات من الصالحين، والدعاة إلى الله – عز وجل – يقول – تعالى -: {وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}12 ، فالرجل بما أعطاه الله – تعالى – من قوة وجاه وسلطان؛ ينبغي أن يجعل كل ذلك في خدمة دين الله – تعالى – مؤازراً لأهل الدين والصلاح.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

ثانياً: بعض صفات الرجولة في السنة الشريفة:

1-      القيام بالفرائض على وجهها الأكمل فعن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أن أعرابياً أتى النبي   فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: ((تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة،وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان))، قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا، فلما ولى، قال النبي  : ((من سرَّه أن ينظر إلى رجلٍ من أهل الجنة؛ فلينظر إلى هذا))13 .

2- الصبر على الشدائد فعن خباب بن الأرت – رضي الله عنه – قال: شكونا إلى رسول الله   وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله لَيَتِمَنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه؛ ولكنكم تستعجلون))14 .

3- الأمانة والقناعة والحكمة: فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي   قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ اشترى عقاراً، فوجد فيها جرةً من ذهبٍ، فقال: اشتريت منك الأرض ولم أشتر منك الذهب، فقال الرجل: إنما بعتك الأرض بما فيها! فتحاكما إلى رجل، فقال: ألكما ولد؟ فقال أحدهما:لي غلام. وقال الآخر: لي جارية، قال: فأنكحا الغلام الجارية، ولينفقا على أنفسهما منه، وليتصدقا))15 .

4- قيام الليل: فعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه – رضي الله عنهما – أن النبي   قال: ((نعم الرجل عبد الله؛ لو كان يصلي من الليل)) قال سالم: “فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً”16 .

اللهم هيئ لهذا الأمة رجالاً يرفعون رايتها، ويعيدون مجدها، ويحققون النصر المنشود لها، اللهم أبرم لهذه الأمر أمر رشد يُعَزُّ فيه أهل الطاعة، ويُذّلُّ فيه أهل المعصية، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.

عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً…


 1  سورة آل عمران (102).

 2  سورة النساء (1).

 3  سورة الأحزاب (70-71).

 4  صفة الصفوة (1/367-368).

 5  رواه الإمام مالك في الموطأ (1395)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (1/40).

 6  سورة التوبة (108).

 7  سورة الأحزاب (23).

 8  سورة النور (36-37).

 9  سورة النور (37).

 10  سورة النساء (34).

 11  ابن كثير (1/492).

 12  سورة يس (20).

 13  البخاري (1310)، ومسلم (16).

 14  البخاري (6430).

 15  ابن ماجه (2502)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2/72).

 16  البخاري (1054)، مسلم (4528).