آداب الدعاء

آداب الدعاء

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن أفضل ما اعتنى به المسلم في حياته، وأنفع ما قضى به المؤمن أوقاته؛ هو ذكر الله – سبحانه وتعالى -، والتضرع بين يديه، وملازمته دعاءه، فإن ذلك خير ما تصرف فيه الأوقات، وتمضى فيه الأنفاس، بل هو أعظم أسباب سعادة العبد، وراحته، وطمأنينته، وفلاحه في كل أموره، وهو مفتاح لكل خير يناله العبد في الدنيا والآخرة.

وقد أتت النصوص التي تدل على الترغيب والحث على الدعاء، والتضرع بين يدي الله – عز وجل – من تلك النصوص: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}1، وقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}2، وقوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}3، وغيرها.

فالدعاء من العبادات التي يتعبد العبد بها لله – تبارك وتعالى -، بل أتى في بعض النصوص أن النبي – صلى الله عليه وسلم – حصر العبادة في الدعاء فقال في الحديث الذي يرويه النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ – رضي الله عنه – عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ))، وَقَرَأَ {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {دَاخِرِينَ} أي "أن الدعاء من أعظم العبادة، فسمى الدعاء عبادة؛ لأن الله – تعالى – هو أحق من دُعي، وأحق من سُئل وطُلب منه"4.

ولا يخفى أن النبي – صلى الله عليه وسلم – الناصح لأمته قد ترك الناس بعده على محجة بيضاء، وسبيل واضحة في الذكر والدعاء، وفي كل أمور دينهم ودنياهم، وإذا كان الدعاء من العبادات المطلوبة من العبد استحق أن يُحاط به جملة من الأحكام والآداب الواجبة والمستحبة، وأن تُجتنب موانع الإجابة، والمحاذير الشرعية فيه، ومن آداب الدعاء ما يلي:

1. الإخلاص في الدعاء، والتضرع، والخشوع، والرغبة، والرهبة؛ لأن الإخلاص مطلوب في كل العبادات الشرعية؛ ولأن الإخلاص شرط قبول الأعمال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}5، "والإخلاص فيه لله وحده؛ لأن ذلك يتضمنه الخفية، وإخفاؤه وإسراره أن يكون القلب خائفاً طامعاً، لا غافلاً، ولا آمناً، ولا غير مبال بالإجابة، وهذا من إحسان الدعاء، فإن الإحسان في كل عبادة بذل الجهد فيها، وأداؤها كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه"6.

2. "ترصد الأوقات الشريفة، والتي هي أحرى للإجابة: كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا – تَبَارَكَ وَتَعَالَى – كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ))7، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ))8، وغيرها من الأحاديث التي تبين أوقات استجابة الدعاء"9.

3. من آداب الدعاء: أن يدعو مستقبل القبلة، ويرفع يديه؛ فعن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه – قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ…الحديث10.

4. ومن آداب الدعاء: خفض الصوت بين المخافتة والجهر، وعدم الاعتداء في الدعاء، ولذا قال – تعالى -: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}11، وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: "لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – خَيْبَرَ أَوْ قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِباً، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعاً قَرِيباً، وَهُوَ مَعَكُمْ))12.

5. عدم تكلف السجع في الدعاء، فإن حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع، والتكلف لا يناسبه: فعَنْ أَبِي نَعَامَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ – رضي الله عنه – سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ سَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنْ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: ((إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ))13.

6. الجزم، والقطع في الدعاء، والثقة بالله – تعالى -، واليقين بالإجابة فعَنْ أَنَسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ، وَلَا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي فَإِنَّهُ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ))14، وجاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ))15.

7. أن يلح في الدعاء، ويكون ثلاثاً فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ – رضي الله عنه – قَالَ:كَانَ رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثاً، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثاً))16.

8. ألا يستعجل الإجابة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ: ((لا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ))17، فقد جعل النبي – عليه الصلاة والسلام – من الموانع التي تمنع إجابة الدعاء أن يستعجل الإنسان المسلم، ويترك الدعاء؛ لتأخر الإجابة.

9. التوبة، ورد المظالم، والإقبال على الله – عز وجل -، وهو الأدب الباطن، وهو الأصل في الإجابة، فذلك هو السبب القريب في الإجابة: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّباً، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ))18، وهذا الكلام أشار فيه – صلى الله عليه وسلم – إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابته، وإلى ما يمنع من إجابته، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة: أحدها إطالة السفر، والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء، والثاني: حصول التبذل في اللباس والهيئة بالشعث والإغبار، وهو أيضاً من المقتضيات لإجابة الدعاء، والثالث: مد يديه إلى السماء وهو من آداب الدعاء التي يرجى بسببها إجابته، وفي حديث سلمان – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْراً خَائِبَتَيْنِ))19، والرابع: الإلحاح على الله – عز وجل – بتكرير ذكر ربوبيته وهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء، وأما ما يمنع إجابة الدعاء فقد أشار – صلى الله عليه وسلم – إلى أنه التوسع في الحرام أكلاً وشرباً ولبساً وتغذية، فأكل الحرام، وشربه، ولبسه، والتغذي به؛ سبب موجب لعدم إجابة الدعاء.

وفي قوله: "كيف يستجاب له فهو استفهام وقع على وجه التعجب، والاستبعاد، وليس صريحاً في استحالة الاستجابة ومنعها بالكلية، فيؤخذ من هذا أن التوسع في الحرام، والتغذي به؛ من جملة موانع الإجابة، وقد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه، وقد يكون ارتكاب المحرمات الفعلية مانعاً من الإجابة أيضاً، وكذلك ترك الواجبات"20.

10. أن يبدأ بحمد الله، ويصلي على النبي – صلى الله عليه وسلم -، ويختم بذلك، فعن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال: "كلُّ دُعاءٍ محجوب حتَّى يُصلَّى على محمد – صلى الله عليه وسلم -"21.

وبعد أن عرفنا آداب الدعاء فإن الواجب على العبد أن يأتي بالأدعية المأثورة؛ لأنها أفضل ما يأتي به المسلم من الذكر والدعاء؛ لاشتمالها على غاية المطالب الصحيحة، ونهاية المقاصد العلية، وفيها من الخير والنفع، والبركة والفوائد الحميدة والنتائج العظيمة ما لا يمكن أن يحيط به إنسان، أو يعبر عنه لسان، وسالكها على سبيل أمان وسلامة، وراحة وطمأنينة؛كونها صادرة من الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – بخلاف غيرها من الأذكار والأدعية التي يخترعها الناس ويحدثونها، فإنها قد يكون فيها تكلف، أو اعتداء، أو بدعة، أو شرك، أو نحو ذلك من الخطأ والضلال الذي قد لا يهتدي إلى معرفته كثير من الناس، وقد تكون سليمة في مدلولها ومعناها، لكن المأثور عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أسد وأوفى وأكمل، والدعاء يفتح على القلب أنواعاً من الفضائل، وجملة من الطاعات؛ فهو مفتاح لكل خير يناله العبد في الدنيا والآخرة، فمتى أعطى الله العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح له، ومتى أضله بقي باب الخير مرتداً دونه.

نسأل الله تعالى أن يهدينا إلى طاعته، ويبعدنا عن معصيته، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 سورة غافر (60).

2 سورة البقرة (186).

3 سورة غافر (14).

4 تفسير السعدي (1/292).

5 سورة غافر (14).

6 الترمذي (2895)، وصحيح الأدب المفرد (1/ 259).

7 البخاري (1077)، ومسلم (1261).

8 مسلم (744).

9 موسوعة خطب المنبر (1/ 1505) بتصرف.

10 مسلم (3309).

11 سورة الأعراف (55).

12 البخاري (3883)، ومسلم (4874).

13 أبو داود (88)، وصحيح أبي داود (1/21).

14 صحيح البخاري (5863)، ومسلم (4838)، واللفظ للبخاري.

15 الترمذي (3401)، والسلسلة الصحيحة (2/141).

16 مسلم (3349).

17 مسلم (4918).

18 مسلم (1686).

19 صحيح الترغيب والترهيب (2/128).

20 جامع العلوم والحكم (1/105- 107) بتصرف.

21 السلسلة الصحيحة (5/54).