مراعاة المشاعر

 

 

مراعاة المشاعر

الشيخ محمد صالح المنجد

 

عناصر الخطبة:

1. من قيم الدين مراعاة المشاعر.

2. الشريعة تحث على هذه الخصلة.

3. الهادي الأعظم يراعي المشاعر ومواقف من ذلك.

4. مراعاة مشاعر أصحاب العاهات.

5. الأمور المحرجة والتعامل معها وفق مبدأ “مراعاة المشاعر”.

6. مشاعر لا بد أن تراعى.

7. ملاحظة أحوال الناس في تطبيق السنن.

إن الحمد لله، نحمده،ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد  ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله

من قيم الدين مراعاة المشاعر

لقد شرع الله لنا ديناً قيماً؛ قيماً في العقيدة والعبادة والمعاملة، ومما جاء به الشرع الحنيف: التلطف، وحسن المعاملة، ومراعاة المشاعر والخواطر، فحث العباد على الانتقاء والاختيار، وهذا أمر يجمع القلوب. يوسف لما حضر أخوته قال: {إذ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}[يوسف: من الآية100]، ولم يقل: الذي أخرجني من الجب؛ وذلك لأنهم هم الذين رموه في الجب، فلم يرد أن يواجههم، وعزا الأمر إلى السجن الذي لا دخل لهم فيه، وكذلك لئلا يحرجهم قال:{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}[يوسف: من الآية100] فعزا الأمر إلى الشيطان، مع أنهم الذين باشروا إيذاءه، وقال:{وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}[يوسف: من الآية100]، ولم يقل وجاء بكم من الجوع والنصب والفقر؛ لئلا يظهر منته عليهم.

الشريعة تحث على هذه الخصلة

نبينا   لما قال: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث، حتى تختلطوا بالناس))[رواه البخاري برقم (5816)، ومسلم برقم (4053)] ما هي العلة؟ لماذا؟ مراعاة لشعور هذا الثالث الجالس؛ لئلا يظن أنهما يتآمران عليه،أو أنه دون مستوى الكلام قال -عليه الصلاة والسلام- في تعليل هذا: ((من أجل أنه يحزنه))[التخريج السابق]. طبعاً ولا خمسة دون السادس، ولا تسعة دون العاشر، ويدخل في الحديث أيضاً من جهة المعنى أن يتكلم اثنان بلغة أجنبية لا يفهمها الثالث في المجلس.

وقوله  : ((لا يقوم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه))[رواه البخاري برقم (5798)، ومسلم بلفظ: ((لا يقيمن أحدكم الرجل…))برقم (4043)]؛ مراعاة لشعور من سبق إلى المكان، وأنه صاحب حق، وأن إقامته إيذاء ولذلك قال:((ولكن افسحوا))[رواه أحمد برقم (8108) قال الأرنؤوط: إسناده حسن]، ((وإذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به))[رواه أحمد برقم (7476)، قال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم] يبين أن الذي سبق له حق، هذا إذا قام لغرض يسير، يتوضأ ويرجع، يقضي شغلاً يسيراً ويعود، فإذا طال غيابه سقط حقه.

لماذا جاء الأمر بإكرام ذي الشيبة المسلم وتوقير الكبير ((ليس منا من لم يوقر كبيرنا))[رواه الترمذي برقم(1842)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5445)]، وفي رواية: ((يجل كبيرنا))[رواه أحمد برقم (21693)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (5443)]، وجاء في الحديث: ((كبر كبر))[رواه البخاري برقم (2937)، ومسلم برقم (3160)] في الكلام في المناولة في الإمامة عند تساوي الفضائل الأخرى، إذا تساووا في الفضائل الأخرى فأكبرهم سناً.

الهادي الأعظم يراعي المشاعر ومواقف من ذلك

صاد صحابي صيداً للنبي   وهو محرم وقدمه إليه، النبي   رده، ولم يكن من عادته رد الهدية فرأي ذلك في وجه الصحابي، تألم لماذا ترد هديته؟ لم يتركه النبي  ، وإنما علل ذلك فقال مطيباً خاطر الرجل:((إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم))[رواه البخاري برقم (2385)، ومسلم برقم (2059)] فالمحرم لا يصيد، ولا يأكل ما صيد من أجله.

مراعاة حال صاحب المنزل في الشريعة {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواوَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍٍ}[الأحزاب: من الآية53]؛ لأن ما يضايق صاحب المنزل يجتنب، فلما جاءوا في عرس النبي وأكلوا، النبي   يريد أن يقوم إلى أهله، وهؤلاء جلوس، بعض الناس تهيأ للقيام؛ إشعاراً لهم ليقوموا، ما قاموا المرة الأولى والثانية والثالثةِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لايَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}[الأحزاب: من الآية53] الضيافة ثلاثة أيام وما زاد على ذلك فهي صدقة، قال في الحديث: ((ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه))[رواه البخاري برقم (5670)] إذاً لا يجوز أن يضيق على هذا المكرم الذي أضافه فلا يزيد عن هذه الثلاثة.

النبي  يراعي مشاعر حتى المخطئ الذي جاء وبال في المسجد من جفائه وجهله، وقاموا عليه، أمرهم أن يتركوه ثم علمه، قال: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر وإنما هي لذكر الله -عز وجل- والصلاة وقراءة القرآن))[رواه مسلم برقم (429)] الصحابي هذا لما فقه، وتعلم لما روى القصة هو نفسه بعد ذلك قال: “فلم يؤنب ولم يسب”النبي   لا أنبني ولا سبني

مراعاة مشاعر أصحاب العاهات

إذا ترك إنسان أمراً واجباً عليه ربما لو نبه بطريقة صريحة جداً أمام الناس يتأذى، فتستعمل الحيلة الطيبة، عطس رجل عند ابن المبارك ولم يحمد الله فقال ابن المبارك للرجل: ماذا يقول الرجل إذا عطس؟ قال: الحمد لله، قال: يرحمك الله، لماذا نهى النبي   عن إحداد النظر إلى أصحاب العلة وقال: ((لا تديموا النظر إلى المجذومين))[رواه ابن ماجه برقم (3533)] فمن به عاهة لا يحد النظر إليه هذا من الأدب؛ لئلا يحرج، ولذلك الذكر الوارد في رؤية المبتلى: ((الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً)) [رواه الترمذي برقم (3354) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (555)] لا يقال جهراً؛ لئلا يحرج صاحب العاهة، بل يسر في نفسه إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا كان الرجل يعمل منكراً جهراً أمام الناس، فيقال له ذلك جهراً؛ ليتأدب.

الأمور المحرجة والتعامل معها وفق مبدأ “مرعاة المشاعر”

الأشياء المخجلة إذا كانت مباحة ليست حراماً، لكن تخجل الإنسان يتعاطى معها أيضاً بكامل الدقة؛ لئلايحرج ذلك الإنسان، مثلاً جاء في الحديث: ((إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه، ثم لينصرف))[رواه أبو داود برقم (940)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (286)] يأخذ بأنفه كأنه حصل له رعاف أثناء الصلاة، لماذا؟ حفظاً لشعوره، يقوم، ربما الذي يعلم هذا بعض الناس يقول: أصابه حدث، والذي لا يعلم وحتى الذي يعلم يقولون: ربما عنده رعاف فعلاً.

جاء في الحديث النهي عن الضحك من خروج الريح من الإنسان؛ لأن هذا شيء يقع من كل أحد، فلماذا يضحك من الشخص ويحرج أمام الناس؟ يراعى الشعور في الإسلام حتى شعور الطفل، “سجد النبي   مرة فأطال السجود، فبعض الناس قلق رفع رأسه، النبي   ما زال ساجداً، بعد الصلاة سألوه حدث أمر، أوحي أليك؟ قال: ((كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني)) حفيدي ابنيارتحلني -جعلني كالراحلة-، جاء الصغير فامتطاني يلعب قال:((فكرهت أن أعجله))[رواه النسائي برقم (1129)، وصححه الألباني]، هذا غرض الطفل من اللعب ((فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته))، هكذا راعى النبي   مشاعر الناس.

نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا أجمعين من الذين يتبعون سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ويقضون بالحق، وبه يعدلون.

أقول قولي هذا،وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين، وإمام الناس يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته وأزوجه، وخلفائه الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله:

مشاعر لا بد أن تراعى

مراعاة شعور أصحاب المهن الضعيفة، أصحاب المستويات الاجتماعية النازلة، يقول  : ((إذا أتى أحدكم خادمه بطعام، فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين))[رواه البخاري برقم (2370)] لماذا؟ قال في الحديث الآخر: ((فإنه ولي حره ودخانه))[رواه البخاري برقم (5039)] من الذي طبخ وتعب حتى أنضج الطعام؟ فيناسب أن يناول، أما أن يبقى يتفرج على صاحب المنزل، وهو يأكل أمامه، وهذا الخادم والطباخ قد تعب ولا يتناول شيئاً، فليس من مكارم الأخلاق، حتى الذين يقام عليهم الحد الشرعي تراعى أحوالهم، فمرة أقام النبي   الحد على شخص، وأمر الناس بجلده، فتلفظ أحدهم عليه وقال:”أخزاه الله -لعنه الله- ما أكثر ما يؤتى به“[رواهالبخاري برقم (6283)]، فنهاه النبي   ((لا يثرب))[رواه البخاري برقم (2008)، ومسلم برقم (3215)] الحد: كفارة لما فعل، فلماذا الزيادة؟، بلغت الحساسية المرهفة من النبي   في مراعاة مشاعر الناس أنه كان يراعي مشاعر الأم، الأم من أجل طفلها، قال: ((إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها،فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه))[رواه البخاري برقم (668) ومسلم برقم (723)]  يقصر الصلاة من أجلها؛ حتى لا يشتد الأمر عليها، حديث:((لا تسبوا الأموات))[رواه البخاري برقم (1306)] لماذا؟ المسألة فيها تفصيل، ليس هذا وقته، لكن قال في آخر الحديث في رواية مهمة قال: ((لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء))[رواه الترمذي برقم (1905)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم(7312)] فقد يكون الميت يستحق السب لكن له أقارب يتأذون بسبه، ولذلك نهانا عنها.

شعور البنت الحيية التي تقدم على الزواج وليس لها سابق عهد قال: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر –يعني الثيب- ولا تنكح البكرحتى تستأذن))، قالوا: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال:((أن تسكت))[رواه البخاري برقم (4741) ومسلم برقم (2543)] إذاً سكوتها كاف لماذا؟ مراعاة للحياء، كيف الحال الآن يا عباد الله؟

ملاحظة أحوال الناس في تطبيق السنن

وهكذا الإمام يراعى في تطبيقه للسنة ولا يعنفه المأمومون، وأيضاً هو يراعي السنة، ويرأف بالناس، وقد يطيل بعضهم إطالة في موضع ليس من السنة الإطالة فيه أبداً، مثل دعاء التراويح بعضهم يجعله أربعين دقيقة، عجوز تصلي وراءه تقول: من شدة القيام ومن طوله هو يدعو وأناأدع أن ينتهي، هو يدعو وأنا أدع أن يخلص، والخطيب يراعي المأمومين كذلك فلا يطول عليهم خصوصاً إذا عودهم خطيبهم على تقصير الخطبة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها، سرها وعلانيتها.

للهم آمنا في أوطاننا، وبارك لنا فيما آتيتنا، وسدد ولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.

لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وعمل مبرور، وسعي مشكور، وتجارة لا تبور، يا رحيم يا ودود يا غفور أصلح لنا شأننا كله، اللهم اهدنا واهد ذرياتنا، وأدخلنا دار السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.