الحلم

الحلم

الحلم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أما بعد:

أيها الإخوة:

خلق نبيل غفلنا عنه، ونسيه الكثير، وحتى من تذكره وعلم به تراه لا يتصف به إلا من رحم الله تعالى. هذا الخلق النبيل وصف الله به نفسه، ووصف به أنبياءه ورسله. ما اتصف به أحد من الناس إلا علا وارتفع في نظرهم وازدادوا له احتراماً وإجلالاً إنه خلق الحلم.

 فيا ترى ما هو الحلم؟ قيل: هو ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب. وقيل: هو ترك الانتقام عند شدة الغضب مع القدرة على ذلك. وقيل: هو الطمأنينة عند سورة الغضب. وقيل: هو الأناة والعقل وهو نقيض السفه.

ولقد وصف الله تعالى به نفسه فقال: (( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم)) البقرة: 225. وقال: ((واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم)) البقرة: 235.و الآيات في ذلك كثيرة.

 ومما وصف به أنبياءه ورسله قوله تعالى: (( إن إبراهيم لأواهٌ حليم)) التوبة: 114. وكذلك شعيب (إنك لأنت الحليم الرشيد) هود: 87. وغير ذلك من الآيات.

إخواني في الله: إننا عندما نقرأ سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لنعجب من حلمه على الناس ورحمته بهم, فمن ذلك أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ، فهمَّ به أصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً، ثم قال: أعطوه سناً مثل سنه) قالوا: يا رسول الله لا نجد إلا أمثل من سنه، فقال: أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاءً) 1 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك!! ثم أمر له بعطاء )2

واعجباً لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي يا سيد الحلماء!! أيّنا يستطيع أن يصنع مثل ما صنع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم إنها والله أخلاق النبوة.

أيها الإخوة: قد يقول قائل هذا نبي وأنَّى لنا أن نصل إلى ذلك ثم يتكاسل عن هذا الخلق ولا يتحلى به، فأقول له مذكراً: تذكر أن الحلم بالتحلم والعلم بالتعلم، ومن جاهد نفسه على الاتصاف بصفة كان من أهلها.

أيها الإخوة: أذكر لكم بعض الأسباب الدافعة للحلم فمن ذلك:

أولا- الرحمة بالجهال وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم.

 ثانياً:أن كظم الغيظ مع القدرة على الانتصار دليل على سعة الصدر، وحسن الثقة.

 ثالثا: الترفع عن السباب وذلك من شرف النفس وعلو الهمة. وقد قيل: إن الله تعالى سمى نبيه يحيى عليه السلام (سيداً) وذلك لحلمه. ولذلك قال الشاعر:

لا يبلغ المجد أقوام وإن كرموا           حتى يـذلوا وإن عزوا لأقـوام

ويُشتموا فترى الألوان مسفرة          لا صفح ذل ولكن صفح أحلام

أخيراً أخي الحبيب: كن صبوراً وإياك أن تستفزك كلمة, وعود نفسك على ذلك اقتداءً بنبيك عليه الصلاة والسلام. الذي أوصى ذلك الرجل عندما طلب منه الوصية قال: لا تغضب.. وكم من موقف فقد الإنسان فيه حلمه وغضب واشتد غضبه وتصرف تصرفاً ندم عليه سنين عديدة.

قال لقمان الحكيم: ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا الأخ إلا عند الحاجة إليه.

 وبلغ عمر رضي الله عنه أن جماعة من رعيته اشتكوا من عماله، فأمرهم أن يوافوه، فلما أتوه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، أيتها الرعية إن لنا عليكم حقاً: النصيحة بالغيب، والمعاونة على الخير، أيتها الرعاة: إن للرعية عليكم حقاً فاعلموا أنه لا شيء أحب إلى الله ولا أعز من حلم إمام ورفقه، وليس جهل أبغض إلى الله ولا أغم من جهل إمام وحرقه، وقال أيضا: تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والحلم. وقال علي رضي الله عنه: إن أول ما عوض الحليم من حلمه أن الناس كلهم أعوانه على الجاهل قيل لعرابة بن أوس: بم سدت قومك يا عَرَابة؟ قال: كنت أحلم عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن جاوزني فهو أفضل، ومن قصر عني فأنا خير منه، وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لرجل سبه: يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى مما رأى من حلمه عليه، وقال الأحنف بن قيس: لست بحليم ولكنني أتحلم.

أسأل الله أن يوفقنا للاتصاف بهذا الخلق العظيم إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.


 


[1]– البخاري مع الفتح 4/2306. والفظ له ومسلم (1601).

[2] -رواه البخاري كتاب اللباس باب البرود والحبرة والشملة(5362)