مطل الغني

 

 

مطل الغني

الحمد لله الملك المحمود، الرحيم المعبود، المعروف بالكرم والجود، أحمده سبحانه وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.. أما بعد:

فإن قضاء الدين من الواجبات المتحتمة على المؤمن، لأنه مرهون بدينه، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن رسول الله   قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)1. والله -عز وجل- يغفر برحمته للعبد كل شيء إلا الدين، كما جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله   أنه قال: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)2. والنبي   أمرنا بحسن القضاء، بل خير الناس هم الذين يحسنون القضاء، كما قال  : (خيركم أحسنكم قضاء)3،

ومن حُسن القضاء أن يعجل الإنسان بقضاء دينه، ولا يماطل إذا كان قادراً، ولو كان صاحب الدين غنياً؛ لأن مطل الغني ظلم، كماء جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله   قال: (مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع)4.

ووفي رواية: (المطل ظلم الغني)5 “والمعنى أنه من الظلم، وأطلق ذلك للمبالغة في التنفير عن المطل، وقد رواه الجوزقي من طريق همام عن أبي هريرة بلفظ: (إن من الظلم مطل الغني)6 وهو يفسر الذي قبله”7.

والمطل: مدافعتك الدين، يقال: ماطلني بحقي، ومطلني بحقي، وهو مطول ومطال. وفي الحديث: (مطل الغني ظلم)”8. ومنه قول رؤبة:

داينتُ أروى والديون تقضى فمطلت بعضاً وأدت بعضا

“وأصل المطل المد، قال ابن فارس: مطلت الحديدة أمطلها مطلاً إذا مددتها لتطول، وقال الأزهري: المطل المدافعة”9. والمراد: تأخير أداء الدين من وقت إلى وقت. فهذا من الظلم. “فإن المطل منع أداء ما استحق أداؤه، وهو حرام من المتمكن، ولو كان غنياً، ولكنه ليس متمكناً، جاز له التأخير إلى الإمكان ذكره النووي”10. فإذا كان مطل الغني ظلم فمطل الفقير المحتاج إلى ماله أشد ظلماً. فيكون معنى قوله: (مطل الغني ظلم) يحتمل معنيان:

الأول:  أن يكون من قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل -وهذا عند الجمهور- وعلى هذا يكون المعنى أن مطل القادر المتمكن من أداء الدين الحال ظلم منه لرب الدين، والظلم حرام فكذا المطل.

الثاني:  أن يكون من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول، وعلى هذا يكون المعنى أن وفاء الدين واجب، وإن كان صاحب الدين غنياً، فالفقير أولى. قال الحافظ: “وقوله: (مطل الغني) هو من إضافة المصدر للفاعل عند الجمهور، والمعنى أنه يحرم على الغني القادر أن يمطل بالدين بعد استحقاقه بخلاف العاجز، وقيل: هو من إضافة المصدر للمفعول، والمعنى أنه يجب وفاء الدين، ولو كان مستحقه غنياً، ولا يكون غناه سبباً لتأخير حقه عنه، وإذا كان كذلك في حق الغني فهو في حق الفقير أولى، ولا يخفى بُعد هذا التأويل”11.

متى يكون الرجل مماطلاً بالدين؟ لا يكون مماطلاً إلا بعد الطلب من صاحب الدين سواء كان هذا الطلب حقيقة أو حكماً: كأن يترك الطلب استحياء أو خوف أذية فهو في حكم الطلب.

وقيل أيضاً: لا يكون مطلاً إلا بعد حلول الأجل: قال في المنتقى:”وإنما يكون مطلاً بعد حلول أجله، وتأخير ما بيع على النقد عن الوقت المعتاد في ذلك على وجه ما جرت عليه عادة الناس من القضاء قد جاء التشديد فيه”12.

“ويجب الأداء بواحد من ستة: خوف فوته بموته، أو مرضه، أو ذهاب ماله، أو موت المستحق، أو طلبه، أو علم حاجته إليه”13.

ولا يكون مطلاً إلا من الميسر الغني أما الفقير فلا، قال في المنتقى:”ووصفه بالظلم إذا كان غنياً خاصة، ولم يصفه بذلك مع العسر، وقد قال الله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}(280)سورة البقرة، وإذا كان غنياً فمطل بما قد استحق عليه تسليمه فقد ظلم.. وقد ثبت عن النبي   أنه قال: (ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)14 فعرضه التظلم منه بقول: مطلني وظلمني، وقال بعض العلماء في قول النبي   (وعقوبته) سجنه حتى يؤدي”15.

والمماطل فاسق ترد شهادته، قال في الشرح الكبير: “وفي الحديث (مطل الغنى ظلم)..أي أن المطل من موانع الشهادة”16. وقال في مواهب الجليل:”وإذا مطل الغني ردت شهادته عند سحنون؛ لأنه ظالم”17.

وهل يفسق بمرة واحدة أم لا بد من التكرار؟

قال النووي: “وقد اختلف أصحاب مالك وغيرهم في أن المماطل هل يفسق وترد شهادته بمطله مرة واحدة، أم لا ترد شهادته حتى يتكرر ذلك منه ويصير عادة ؟ ومقتضى مذهبنا اشتراط التكرار”18.”قال السبكي: مخالفاً للمصنف في اشتراط تكرره نقلاً عن مقتضى مذهبنا، وأيده غيره بتفسير الأزهري للمطل بأنه إطالة المدافعة، أي فالمرة لا تسمى مطلاً، ويخدشه، أي يضعفه،حكاية المصنف اختلاف المالكية: هل يفسق بمرة منه أو لا؟ فاقتضى اتفاقهم على أنه لا يشترط في تسميته مطلاً تكرره، و إلا لم يأت اختلافهم. وقد يؤيد هذا تفسير القاموس له بأنه -أي المطل- التسويف بالدين، وبه يتأيد ما قاله السبكي”19.

وكثير من الناس -إلا من رحم الله- يستدين، ويكثر من الدين، لضرورة ولغير ضرورة، ثم لا يبالي بالدين، ولا يهتم بقضائه، وإذا قضاه قضاه بعد مماطلة وتأخير وإتعاب لصاحب الدين، وهذا من ضعف الإيمان، وقلة المروءة، وبعض الناس يظن أنه إذا كان صاحب الدين غنياً غير محتاج فإنه يحق له أن يماطله، ويؤخره ويتعبه، وهذا لا يجوز، ولو كان صاحب الدين غنياً، بل هذا العمل من الظلم، كما جاء في نص الحديث السابق، بل هو من الكبائر. “قال في التحفة: ويؤخذ منه أن المطل كبيرة، لأنه جعله ظلماً، فهو كالغصب،فيفسق بمرة منه”20.

وقال سيد سابق في فقه السنة:”وبهذا الحديث استدل جمهور العلماء على أن المطل مع الغنى كبيرة، ويجب على الحاكم أن يأمره بالوفاء، فإن أبى حبسه، متى طلب الدائن ذلك، لقول الرسول  : (ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته)21. وقال الهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر: “الكبيرة السابعة بعد المائتين: مطل الغني بعد مطالبته من غير عذر، أخرج الشيخان والأربعة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله   قال: (مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم علي مليء فليتبع)22.

فينبغي للمسلم أن يحذر المطل خاصة مع اليسر لأن من حسن القضاء المبادرة به. والبخاري قد بوب (باب حسن القضاء) أي استحباب حسن أداء الدين، وذكر حديث حذيفة -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي يقول: (مات رجل فقيل له، قال:كنت أبايع الناس فأتجوز عن الموسر، وأخفف عن المعسر فغفر له)23. قال ابن بطال: “وقد يجوز في باب حسن القضاء أن يزيده من صفته، وإنما تحرم الزيادة بالشرط”24. وقال أيضاً: “في هذا الحديث ترغيب عظيم في حسن التقاضي، وان ذلك مما يدخل الله به الجنة، وهذا المعنى نظير قوله: (خيركم أحسنكم قضاء)25.

فجاء الترغيب في كلا الوجهين في حسن التقاضي لرب الدين، وفي حسن القضاء للذي عليه الدين، كل قد رغب في الأخذ بأرفع الأحوال، وترك المشاحة في القضاء والاقتضاء،واستعمال مكارم الأخلاق”26.

وقال في فيض القدير: “فإذا كان لأحد عندك دين وقضيته فأحسن القضاء، وزده في الكيل والوزن، وأرجح، تكن بذلك من خيار العباد، وهو الكرم الخفي اللاحق بصدقة السر، فإن المعطي له لا يشعر بأنه صدقة سر في علانية، ويورث ذلك هبة، ووداً في نفس المقضي له، وتخفي نعمتك عليه في ذلك ففي حسن القضاء فوائد جمة”27.

فالواجب المبادرة بقضاء الدين، ولو قبل أن يطلبه صاحبه، لأن هذا من المروءة والدين

قال الشافعي -رضي الله عنه-: “وجماع المعروف إعفاء صاحب الحق من المؤنة في طلبه وأداؤه إليه بطيب النفس، لا بضرورته إلى طلبه، ولا تأديته بإظهار الكراهية لتأديته،وأيهما ترك فظلم، لأن مطل الغني ظلم، ومطله تأخيره الحق”28.

قال في بهجة قلوب الأبرار: “تضمن هذا الحديث -أي حديث (مطل الغني)- الأمر بحسن الوفاء، وحسن الاستيفاء، والنهي عما يضاد الأمرين أو أحدهما. فقوله: (مطل الغني ظلم) أي: المعاسرة في أداء الحق الواجب ظلم; لأنه ترك لواجب العدل، إذ على القادر المبادرة إلى أداء ما عليه، من غير أن يحوج صاحب الحق إلى طلب وإلحاح، أو شكاية. فمن فعل ذلك مع قدرته على الوفاء،فهو ظالم”29.

هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 –  أخرجه الترمذي (ج 4 / ص 250 – 998) وابن ماجه(ج 7 / ص 251 – 2404) وأحمد (ج 19 / ص 345- 9302) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم:6779.

2 – أخرجه مسلم (ج 9 / ص 469)

3 – أخرجه البخاري (ج 8 / ص 95- 2141) ومسلم (ج 8 / ص 299 – 3003)

4 – أخرجه البخاري (ج 8 / ص 66- 2125) وفي (ج 8 / ص 68 – 2126) وفي (ج 8 / ص 238 – 2225) ومسلم (ج 8 / ص 205 – 2924)

5 – عند الإمام أحمد (ج 15 / ص 75) رقم (7034).

6 – أخرجه أحمد (ج 16 / ص 370 – 7828)  والبيهقي في السنن الكبرى (ج 6 / ص 51)

7 – فتح الباري لابن حجر – (ج 7 / ص 131)

8 – تهذيب اللغة – (ج 4 / ص 410)

9 – فتح الباري لابن حجر – (ج 7 / ص 131)

10 – عون المعبود – (ج 7 / ص 325)

11 – فتح الباري لابن حجر – (ج 7 / ص 131)

12 – المنتقى – شرح الموطأ – (ج 3 / ص 451)

13 – شرح البهجة الوردية – (ج 10 / ص 318)

14 – سنن أبي داود – (ج 10 / ص 32 – 3144)  والنسائي (ج 14 / ص 298 – 4610)  وابن ماجه – (ج 7 / ص 271 – 2418) وأحمد – (ج 36 / ص 379 – 1726)  وحسنه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 5487

15 – المنتقى – شرح الموطأ – (ج 3 / ص 451)

16 – الشرح الكبير للشيخ الدردير – (ج 4 / ص 181)

17 – مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل – (ج 17 / ص 264)

18 – شرح النووي على مسلم (ج 5 / ص 413)

19 – إعانة الطالبين – (ج 3 / ص 89)

20 – إعانة الطالبين – (ج 3 / ص 89)

21 – فقه السنة – (ج 3 / ص 567) والحديث سبق تخريجه.

22 – الزواجر عن اقتراف الكبائر – (ج 2 / ص 157) وقد سبق تخريج الحديث.

23 – أخرجه البخاري (ج 8 / ص 222) هكذا: (فقيل له، قال)! قال ابن حجر: “فِيهِ حَذْف تَقْدِيره: فَقِيلَ لَهُ مَا كُنْت تَصْنَعُ”.. لكن البيهقي أخرجه في السنن الكبرى بلفظ: (فقيل له: ما عملت؟) وهو الأصح معنى وسياقاً، وكأنه حصل سقط في الحديث عند البخاري من الناسخ أو غيره. والله أعلم.

24 – شرح ابن بطال – (ج 12 / ص 37)

25 – أخرجه البخاري (ج 8 / ص 95- 2141) ومسلم (ج 8 / ص 299 – 3003)

26 – شرح ابن بطال – (ج 12 / ص 34)

27 – فيض القدير – (ج 3 / ص 640)

28 – المجموع – (ج 18 / ص 252)

29 – بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار (ج 1 / ص 150)