كدر الجماعة خير من صفو الوحدة

 

 

كدر الجماعة خير من صفو الوحدة

الحمد لله الذي أمرنا بالاجتماع، ونهانا عن الافتراق، فقال في محكم كتابه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(103)سورة آل عمران. وقال: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(46)سورة الأنفال. والصلاة والسلام على من أخرجنا الله به من الضلالة إلى الهدى، ومن الفُرقة إلى الجماعة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الضلالة إلى السُّنة. القائل  : (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله والله -يا معشر العرب- لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم   لغيركم من الناس أحرى ألا يقوم به)1.

والقائل  : (وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن: السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه؛ إلا أن يرجع، ومن ادعى دعوىالجاهلية فإنه من جثا جهنم) فقال رجل: يا رسول الله، وإن صلى وصام؟ قال: (وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)2

إن الله ​​​​​​​  أمرنا بلزوم الجماعة، واتباع الحق، ونهانا عن الفرقة والاختلاف لما في ذلك من الوهن والضعف الذي يضعف الأمة المسلمة، ويشغلها فيما بينها؛ والله ​​​​​​​  يقول:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ}(92)سورة الأنبياء،أي ملتكم ودينكم {أُمَّةً وَاحِدَةً}أي ديناً واحداً وهو الإسلام، فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان، وأصل الأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد، فجعلت الشريعة أمة واحدة لاجتماع أهلها على مقصد واحد{وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}{وَتَقَطَّعُواأَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي اختلفوا في الدين فصاروا فرقاً وأحزاباً، قال الكلبي: “فرقوا دينهم بينهم” يلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض، والتقطع هاهنا بمعنى التقطيع”3.

وعن جابر   قال: “لما نزلت هذه الآية:{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ}(65)سورة الأنعام، قال رسول الله  :(أعوذبوجهك) قال:{أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}قال:(أعوذبوجهك){أَوْيَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسول الله  : (هذا أهون أوهذا أيسر)4. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله  : (من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية)5. وأخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله   يقول: (من خلع يداً من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)6.

وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود يحدث عن أبيه، عن النبي قال:(نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه،ثلاث لا يُغِلُّّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم)7.

وعن ابن عمر أن رسول الله   قال: (إن الله لا يجمع أمتي-أو قال-أمة محمد على ضلالة،ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار)8 أي انفرد عن الجماعة، وهم أصحابه   باعتقاد أو قول أو فعل لم يكونوا عليه.

إن الناس اليوم تفرقوا أحزاباً وفرقاً وشيعاً، فكثرت الأهواء والطرق، وتعددت الأفكار، وتنوعت الآراء، حتى نبذوا كتاب الله وراء هم ظهرياً، وتركوا التحاكم إلى الوحيين، كتاب الله وسنة رسوله  . وحتى صدق فيهم قول الشاعر:         

أجَدّوا فلما خفت أن يتفرقوا فريقين، منهم مُصعِد ومُصوِّب

كيف يكون ذلك وقد أمرنا الله بلزوم الجماعة بقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- في قوله:{وَاعْتَصِمُواْبِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا} قال: حبلُ الله، الجماعة”. وقال آخرون: عنى بذلك القرآن والعهد الذي عَهِدَ فيه”9. وكان يقول: “يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمرَ به،وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة، هو خيرٌ مما تستحبون في الفرقة”10. وقال قوم: الجماعة السواد الأعظم. وقيل: المراد بالجماعة الصحابة دون من بعدهم، وقيل: المراد بهم أهل العلم لأن الله جعلهم حجة على الخلق والناس تبع لهم في أمرالدين. قال الطبري: والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة، قال: وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزاباً فلا يتبع أحداً في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر”11

 

والجماعة هي ما كانت على الحق، ولو كان المسلم وحده متمسكاً بالحق فهو جماعة، والله يقول:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }(120)سورة النحل. فالجماعة -عباد الله- لا تعرف بالكثرة، وإنما تعرف بالحق، فهذا إبراهيم خليل الرحمن كان أمة وحده، ومعنى قوله: “أمة” أي إماماً يقتدى به في الخير، فمن معاني الأمة: الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به.

“والقرآن الكريم يرسم إبراهيم عليه السلام نموذجاً للهداية والطاعة والشكر والإنابة لله. ويقول عنه هنا: إنه كان أمة، واللفظ يحتمل أنه يعدل أمة كاملة بما فيها من خير وطاعة وبركة، ويحتمل أنه كان إماماً يقتدى به في الخير وورد في التفسير المأثور هذا المعنى وذاك، وهما قريبان، فالإمام الذي يهدي إلى الخير هو قائد أمة، وله أجره، وأجر من عمل بهدايته، فكأنه أمة من الناس في خيره وثوابه لا فرد واحد”12. فهو وحده قد ناب مناب أمة، و”قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: أي كان عنده عليه السلام من الخير ما كان عند أمة، وهي الجماعة الكثيرة، فإطلاقها عليه -عليه السلام- لاستجماعه كمالات لا تكاد توجد إلا متفرقة في أمة جمة:

وليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد

وهو   رئيس الموحدين، وقدوة المحققين، الذي نصب أدلة التوحيد ورفع أعلامها، وخفض رايات الشرك وجزم ببواتر الحجج هامها، وقال مجاهد: سمي عليه السلام أمة لانفراده بالإيمان في وقته مدة ما، وفي صحيح البخاري أن إبراهيم عليه السلام قال لسارة: (ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك) وذكر في (القاموس) أن من معاني الأمة من هو على الحق مخالف لسائر الأديان، والظاهر أنه مجاز بجعله كأنه جميع ذلك العصر لأن الكفرة بمنزلة العدم”13.

واليهود والنصارى هم أشد  الناس اختلافاً، وقد قال الله فيهم: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}(118)سورة هود، قال عطاء يعني: اليهود والنصارى والمجوس، {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} يعني: الحنَيفيَّة. وقال قتادة: أهلُ رحمة الله أهل الجماعة، وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل فرقة، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم”14.

ونحن عندما ندعو إلى الجماعة، لا ندعو إلى التجمع على عصبيات جاهلية، إنما ندعو إلى الجماعة المتمسكة بالحق، المدافعة عنه، وهم المتبعون لهدي النبي   وأصحابه الكرام. وقد قال الرسول الله  : (من قتل تحت راية عمية، يدعو عصبية، أو ينصر عصبية،فقتلة جاهلية)15. وهو من يدعو الناس إلى الاجتماع على عصبية، وهي معاونة الظالم. وقد جاء في الحديث:(ما بال دعوى الجاهلية)16.

وهو كقولهم يا آل فلان كانوا يدعون بعضهم بعضاً عند الأمر الحادث.

إذاً نحن لا نعني بالجماعة الاجتماع على الباطل والتحزب على الباطل إنما ندعو إلى التمسك بالحق، وهو كتاب الله وسنة رسوله.

أهمية الاجتماع:

إن في الاجتماع قوة للمسلمين، فلنكن جبهة واحدة على أعدائنا، فالوحدة قوة، والرسول الله   يقول: (يد الله مع الجماعة)17.

“أي حفظه وكلاءته عليهم، يعني أن جماعة أهل الإسلام في كنف الله، فأقيموا في كنف الله، بين ظهرانيهم ولا تفارقوهم”18.

فعلينا أن نلزم الجماعة، وأن ننبذ الفرقة والاختلاف، وأن نتمسك بكتاب الله وسنة رسوله  فإن في ذلك قوتنا وعزنا.      

فاتقوا الله عباد الله واقدروا الله حق قدره. وإياكم واتباع الأهواء والتفرق،واتبعوا ولا تبتدعوا. وتوحدوا ولا تتفرقوا. وكونوا عباد الله إخواناً. نسأل الله -عز وجل- أن يحمينا من التفرق والأهواء، وأن يجعلنا متوحدين ومتآلفين، على كتاب الله وسنة رسوله.

اللهم إنا نعوذ بك من الفرقة والشقاق والنفاق، ونعوذ بك من الهوى والطغيان، ونسألك الوحدة والاجتماع والقوة، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا واجعلنا من الراشدين.

وصلِّ على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم تسليماً كثيراً.


1 – أخرجه أحمد (16329) وصححه الألباني إلى قوله: (إلا واحدة وهي الجماعة) فقط  في شرح العقيدة الطحاوية (ج 1 / ص 431)

2 – رواه الإمام أحمد والترمذي، وصححه  الألباني: في المشكاة (3694) وصحيح الجامع (1724).

3 –  تفسير البغوي (ج 5 / ص 353)

4 – أخرجه البخاري (4352).

5 – أخرجه البخاري (6610) ومسلم (3438)   

6 – رواه ومسلم(1851).

7 – أخرجه الترمذي (2658) و ابن ماجه (226) وأحمد(16153) وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 6766.

8 – أخرجه الترمذي، وقال الألباني: صحيح دون “و من شذ” المشكاة (3 / 11) 

9 – تفسير الطبري (ج 7 / ص 71)

10 – تفسير الطبري (ج 7 / ص 75)

11 – فتح الباري لابن حجر (ج 20 / ص 89)

12 – في ظلال القرآن (ج 4 / ص 496)

13 – تفسير الألوسي (ج 10 / ص 332)

14 – تفسير ابن كثير (ج 4 / ص 362)

15 – أخرجه مسلم.

16 – أخرجه البخاري (4525) ومسلم (4682) .

17 -أخرجه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (ج 5 / ص 166)

18 – تحفة الأحوذي (ج 5 / ص 458)