سكتات الإمام

سكـتات الإمام

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:

من المسائل التي تتعلق بصلاة الجماعة: سكوت الإمام في صلاته هل هو ثلاث سكتات أم سكتتان؟ وأين مواضع هذه السكتات؟ هذه المسألة مما جرى فيها الخلاف بين أهل العلم، وقد ورد في السكوت في الصلاة عدة أحاديث منها:

حديث أبي هريرة  قال: كان رسول الله إذا كبر في الصلاة سكت هنية قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج، والماء، والبرد.1 

وعن سمرة بن جندب  أنه حفظ عن رسول الله  سكتتين: سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فحفظ ذلك سمرة، وأنكر عليه عمران بن حصين، فكتبا في ذلك إلى أبي بن كعب، فكان في كتابه إليهما أو في رده عليهما: أن سمرة قد حفظ).2

فقد ذكر في حديث أبي هريرة السكوت بعد تكبيرة الإحرام لقراءة دعاء الاستفتاح .. وذكر في حديث سمرة سكتتان:

الأولى: بعد تكبيرة الإحرام كما هي في حديث أبي هريرة.

والثانية: عند الفراغ من الفاتحة، وفي رواية أخرى: عند الانتهاء من القراءة، هكذا مجملاً؛ ولم يحدد هل هو عند الانتهاء من قراءة الفاتحة أم الانتهاء من قراءة السورة بعدها.

ولهذه الروايات وغيرها اختلف العلماء في عدد السكتات ومواضعها، بل حصل الخلاف في مشروعية السكوت من عدمه .. ولننقل كلام بعض جهابذة أهل العلم في ذكر المسألة: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – بعد أن ذكر حديث أبي هريرة  السابق:

“للناس في الصلاة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه لا سكوت فيها كقول مالك، ولا يستحب عنده استفتاح، ولا استعاذة، ولا سكوت لقراءة الإمام‏.‏ والثاني‏:‏ أنه ليس فيها إلا سكوت واحد للاستفتاح‏:‏ كقول أبي حنيفة، لأن هذا الحديث – أي حديث أبي هريرة – يدل على هذه السكتة‏.‏

والثالث‏:‏ أن فيها سكتتين كما في حديث السنن‏،‏ لكن روي فيه أنه يسكت إذا فرغ من القراءة وهو الصحيح، وروي إذا فرغ من الفاتحة فقال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد‏:‏ يستحب ثلاث سكتات‏.‏

وسكتـة الفاتحـة جعلها أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد ليقرأ المأموم الفاتحة، والصحيح أنه لا يستحب إلا سكتتان، فليس في الحديث إلا ذلك، وإحدى الروايتـين غلط، وإلا كانت ثلاثًا، وهذا هو المنصوص عن أحمد‏،‏ وأنه لا يستحب إلا سكتتان، والثانية عند الفراغ من القراءة للاستراحة، والفصل بينها وبين الركوع‏.‏

وأما السكوت عقيب الفاتحة فلا يستحبه أحمد، كما لا يستحبه مالك وأبو حنيفة، والجمهور لا يستحبون أن يسكت الإمام ليقرأ المأموم، وذلك أن قراءة المأموم عندهم إذا جهر الإمام ليست بواجبة، ولا مستحبة، بل هي منهي عنها، وهل تبطل الصلاة إذا قرأ مع الإمام‏؟‏ فيه وجهان في مذهب أحمد، فهو إذا كان يسمع قراءة الإمام فاستماعه أفضل من قراءته، كاستماعه لما زاد على الفاتحة، فيحصل له مقصود القراءة، والاستماع بدلاً عن قراءته، فجمعه بين الاستماع والقراءة جمع بين البدل والمبدل؛ ولهذا لم يستحب أحمد وجمهور أصحابه قراءته في سكتات الإمام إلا أن يسكت سكوتًا بليغًا يتسع للاستفتاح والقراءة‏.‏

وأما إن ضاق عنهما فقوله وقول أكثر أصحابه‏:‏ إن الاستفتاح أولى من القراءة، بل هو في إحدى الروايتين يأمر بالاستفتاح مع جهر الإمام، فإذا كان الإمام ممن يسكت عقيب الفاتحة سكوتًا يتسع للقراءة فالقراءة فيه أفضل من عدم القراءة، لكن هل يقال‏:‏ القراءة فيه بالفاتحة أفضل للاختلاف في وجوبها أو بغيرها من القرآن؛ لكونه قد استمعها‏؟‏ هذا فيه نزاع‏،‏ ومقتضى نصوص أحمد وأكثر أصحابه أن القراءة بغيرها أفضل، فإنه لا يستحب أن يقرأ بها مع استماعه قراءتها، وعامة السلف الذين كرهوا القراءة خلف الإمام هو فيما إذا جهر‏، ولم يكن أكثر الأئمة يسكت عقب الفاتحة سكوتًا طويلاً‏، وكان الذي يقرأ حال الجهر قليلاً، وهذا منهي عنه بالكتاب والسنة، وعلى النهي عنه جمهور السلف والخلف، وفي بطلان الصلاة بذلك نزاع‏.‏

ومـن العلماء مـن يقـول‏:‏ يقـرأ حال جهـره بالفاتحة، وإن لم يقرأ بها ففي بطلان صـلاته أيضاً نزاع، فالنزاع من الطرفين، لكن الذين ينهون عن القراءة مع الإمام هم جمهور السلف والخلف، ومعهم الكتاب والسنة الصحيحة، والذين أوجبوها على المأموم في حـال الجهـر هكذا‏، فحـديثهم قـد ضعفـه الأئمـة، ورواه أبو داود‏.‏ وقـولـه في حـديث أبي موسي‏: وإذا قرأ فأنصتوا صححه أحمد وإسحاق ومسلم بن الحجاج وغيرهم، وعلله البخاري بأنـه اختلف فيـه، وليس ذلك بقادح في صحته،‏ بخلاف ذلك الحديث فإنه لم يخـرج في الصحيح، وضعفه ثابت من وجوه‏، وإنما هو قول عبادة بن الصامت، بل يفعـل في سكـوته ما يشرع من الاستفتاح والاستعاذة..”.

لو لم يسكت الإمام سكوتاً يتسع للاستفتاح والاستعاذة فهل يستفتح ويستعيذ؟

يضيف ابن تيمية قائلاً: “ولو لم يسكت الإمام سكوتًا يتسع لذلك، أو لم يدرك سكوته؛ فهل يستفتح ويستعيذ مع جهر الإمام‏؟‏ فيه ثلاث روايات‏:‏

إحداها‏:‏ يستفتح ويستعيذ مع جهر الإمام، وإن لم يقرأ؛ لأن مقصود القراءة حصل بالاستماع، وهو لا يسمع استفتاحه واستعاذته إذا كان الإمام يفعل ذلك سرًا‏.‏

والثانية‏:‏ يستفتح ولا يستعيذ؛ لأن الاستعاذة تراد للقراءة، وهو لا يقرأ، وأما الاستفتاح فهو تابع لتكبيرة الافتتاح‏.‏

والثالثة‏:‏ لا يستفتح ولا يستعيذ، وهو أصح، وهو قول أكثر العلماء كمالك، والشافعي، وكذا أبو حنيفة – فيما أظن -؛ لأنه مأمور بالإنصات والاستماع، فلا يتكلم بغير ذلك؛ ولأنه ممنوع من القراءة، فكذا يمنع من ذلك‏..” ثم ذكر – رحمه الله – الخلاف في قراءة الفاتحة، ورجح وجوب القراءة في السرية للإمام والمأموم، وأن القراءة في الجهرية بالنسبة للمأموم مخالف لما كان عليه جماهير السلف، ثم قال: (ولكن طائفة من أصحاب أحمد استحبوا للمأموم القراءة في سكتات الإمام‏.‏ ومنهم من استحب أن يقرأ بالفاتحة وإن جهر، وهو اختيار جدي، كما استحب ذلك طائفة منهم الأوزاعي وغيره، واستحب بعضهم للإمام أن يسكت عقب الفاتحة ليقرأ من خلفه، وأحمد لم يستحب هذا السكوت، فإنه لا يستحب القراءة إذا جهر الإمام؛ وبسط هذا له موضع آ خر‏.‏ والمقصود هنا أن سكوت الاستفتاح ثبت بهذا الحديث الصحيح‏.‏.”3

ونخلص من كلام ابن تيمية – رحمه الله – إلى أنه يرى أن سكوت الإمام يكون في موضعين:

بعد تكبيرة الإحرام لقراءة الاستفتاح، وعند الفراغ من القراءة للاستراحة والفصل بينها وبين الركوع .. وأن قراءة الفاتحة عند سكتات الإمام غير مستحب، بل هو مخالف لما عليه جماهير السلف، ومعلوم أن اختيار ابن تيمية هو ترك قراءة الفاتحة في الجهرية والإنصات لما يتلى، وهذا هو القول الصحيح. أما ابن القيم – رحمه الله – فيرى خلاف ما يراه شيخه ابن تيمية، حيث ذهب إلى أن موضع السكتتين هما: عند قراءة الاستفتاح، وعند الانتهاء من قول الإمام: (ولا الضالين)، وأنه ينبغي للمأموم أن يقرأ بفاتحة الكتاب عندما يسكت الإمام .. ولهذا يقول: “وكان له سكتتان سكتة بين التكبير، والقراءة، وعنها سأله أبو هريرة .. واختلف في الثانية، فروي أنها بعد الفاتحة، وقيل: إنها بعد القراءة وقبل الركوع، وقيل هي سكتتان غير الأولى، فتكون ثلاثاً، والظاهر إنما هي اثنتان فقط، وأما الثالثة فلطيفة جداً لأجل تراد النفس، ولم يكن يصل القراءة بالركوع بخلاف السكتة الأولى، فإنه كان يجعلها بقدر الاستفتاح، والثانية قد قيل: إنها لأجل قراءة المأموم، فعلى هذا: ينبغي تطويلها بقدر قراءة الفاتحة، وأما الثالثة فللراحة والنفس فقط، وهي سكتة لطيفة، فمن لم يذكرها فلقصرها، ومن اعتبرها جعلها سكتة ثالثة فلا اختلاف بين الروايتين، وهذا أظهر ما يقال في هذا الحديث.

وقد صح حديث السكتتين4 من رواية سمرة وأبي بن كعب وعمران بن حصين ذكر ذلك أبو حاتم في “صحيحه” وسمرة هو ابن جندب، وقد تبين بذلك أن أحد من روى حديث السكتتين سمرة بن جندب وقد قال: حفظت من رسول الله سكتتين: سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، وفي بعض طرق الحديث فإذا فرغ من القراءة سكت، وهذا كالمجمل، واللفظ الأول مفسر مبين، ولهذا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: للإمام سكتتان، فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب: إذا افتتح الصلاة، وإذا قال: ولا الضالين على أن تعيين محل السكتتين إنما هو من تفسير قتادة، فإنه روى الحديث عن الحسن عن سمرة قال: سكتتان حفظتهما عن رسول الله  فأنكر ذلك عمران فقال: حفظناها سكتة، فكتبنا إلى أبي بن كعب بالمدينة، فكتب أبي: (أن قد حفظ سمرة) قال سعيد: فقلنا لقتادة: ما هاتان السكتتان؟ قال: إذا دخل في الصلاة، وإذا فرغ من القراءة، ثم قال بعد ذلك: وإذا قال: ولا الضالين قال: وكان يعجبه إذا فرغ من القراءة أن يسكت حتى يتراد إليه نفسه.. ومن يحتج بالحسن عن سمرة يحتج بهذا).5

وعلى كل حال: فالمسألة دائرة بين أقوال:

الأول: أنه لا سكوت في الصلاة، وهو قول مالك.

الثاني: أن فيها سكة واحدة، وهو قول أبي حنيفة؛ لحديث أبي هريرة في الصحيحين.

الثالث: أن فيها سكتتين لما روي في حديث سمرة بن جندب.

الرابع: أن فيها ثلاث سكتات، وهو قول طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كما ذكر ابن تيمية سابقاً.

نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علماً، والحمد لله رب العالمين.


1– رواه البخاري ومسلم.

2– رواه أبو داود وابن خزيمة والحاكم والطبراني والبيهقي، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (661).

3– مجموع فتاوى ابن تيمية (22/338-342).

4– وقد سبق أن علمت تضعيف الألباني لحديث سمرة وأبي بن كعب -رضي الله عنهما-.

5– زاد المعاد (1/194).