صفات المؤمنين

صفات المؤمنين

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد كانت الأمة قبل مبعث محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – تعيش في تخبط وضياع، فلما بعث الله – عز وجل – محمداً – صلى الله عليه وآله وسلم – فتح به الأذهان، وأنار به القلوب، وأزال به الشرك، وهدى به الناس ودعاهم إلى عبادة الله وحده، فخرج من هؤلاء أناس مؤمنون استجابوا لله وللرسول، وآمنوا بما أنزل على محمد، فوهبهم الله بفضل ذلك صفات انتهلوها من نبع الإسلام الصافي تجعلهم جديرين بالحب مما جعلهم أمثالاً يحتذى بها، وقدوة للعالم أجمع، ويمكننا أن نلخص الصفات الأساسية للمؤمن مما ذكره الله – عز وجل – في كتابه عنهم، وامتدحهم بها؛ فيما يلي:

فقد بيَّن الله صفات المؤمنين في مطلع سورة المؤمنون، بل وسمى السورة كاملة باسمهم فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ*}1، و"هذه السورة (سورة المؤمنون) اسمها يدل عليها، ويحدد موضوعها، فهي تبدأ بصفة المؤمنين، ثم يستطرد السياق فيها إلى دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق، فهي سورة المؤمنون، أو هي سورة الإيمان بكل قضاياه ودلائله وصفاته، وهو موضوع السورة ومحورها الأصيل.

وجو السورة كلها هو جو البيان والتقرير، ففي مطلعها مشهد الخشوع في الصلاة: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قد أفلح: فهو فلاح في الآخرة، وفلاح للفرد المؤمن، وفلاح للجماعة المؤمنة، الفلاح الذي يحسه المؤمن بقلبه، ويجد مصداقه في واقع حياته، والذي يشمل ما يعرفه الناس من معاني الفلاح، وما لا يعرفونه مما يدخره الله لعباده المؤمنين، فمن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم هذه الوثيقة، ووعدهم هذا الوعد، وأعلن عن فلاحهم هذا الإعلان؟ من هم المؤمنون، الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون؟

إنهم هؤلاء الذين يفصل السياق صفاتهم بعد آية الافتتاح: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} الخشوع الذي فيه انقياد للحق، "ولهذا قالت طائفة من الصحابة: إن أول علم يرفع من الناس الخشوع2"، وقد أمرنا بالخشوع في صلاتنا، وعدم العبث أثنائها، حيث تستشعر قلوبهم رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله، فتسكن وتخشع، فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات"3.

{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} "مدحهم سبحانه بإعراضهم عن اللغو، وكما قال في موضع آخر: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ}4 تكرّماً وتنزّهاً، وتأدّباً بآداب الشرع، ومثله قوله سبحانه: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً}5، واللغو هنا هو ما يسمعونه من المشركين من الشتم لهم ولدينهم، والاستهزاء بهم" فلا يخالطون أهله، ولا يعاشرونهم6.

{وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} فبعد إقبالهم على الله، وانصرافهم عن اللغو في الحياة؛ تأتي الزكاة، "والزكاة طهارة للقلب والمال: طهارة للقلب من الشح، واستعلاء على حب الذات، وانتصار على وسوسة الشيطان بالفقر، وثقة بما عند الله من العوض والجزاء، وطهارة للمال: تجعل ما بقي منه بعدها طيباً حلالاً، لا يتعلق به حق إلا في حالات الضرورة، ولا تحول حوله شبهة، وهي صيانة للجماعة من الخلل الذي ينشئه العوز في جانب، والترف في جانب، فهي تأمين اجتماعي للأفراد جميعاً، وهي ضمان اجتماعي للعاجزين، وهي وقاية للجماعة كلها من التفكيك والانحلال"7.

{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} و"الفرج يطلق على فرج الرجل والمرأة، ومعنى حفظهم لها أنهم ممسكون لها بالعفاف عما لا يحلّ لهم، وفي قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} استثناء بمعنى: أنهم يلامون في إطلاق ما حظر عليهم فأمروا بحفظهم لفروجهم في جميع الأحوال إلا في حال تزوّجهم أو تسرّيهم، {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وهنا الإشارة إلى الزوجات وملك اليمين، ومعنى العادون: المجاوزون إلى ما لا يحلّ لهم، فسمى سبحانه من نكح ما لا يحلّ عادياً، وقد دلت هذه الآية على تحريم نكاح المتعة، واستدلّ بها بعض أهل العلم على تحريم الاستمناء؛ لأنه من الوراء لما ذكر"8.

{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} "أماناتهم التي ائتمنوا عليها من فرائضه، وأمانات عباده (وَعَهْدِهِمْ) وهو عهوده التي أخذها عليهم بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم، وعقودهم التي عاقدوا الناس، (رَاعُونَ) يقول: حافظون لا يضيعون، ولكنهم يوفون بذلك كله"9، والأمانة هي: ما يؤتمنون عليه، والعهد هو: ما يعاهدون عليه من جهة الله سبحانه أو جهة عباده، وقد جمع العهد والأمانة كل ما يتحمله الإنسان من أمر الدين والدنيا، والأمانة أعمّ من العهد، فكل عهد أمانة.

{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} "قرأ الجمهور: {صَلَوَاتِهِمْ} بالجمع، وقرأ حمزة والكسائي: {صلاتهم} بالإفراد، ومن قرأ بالإفراد فقد أراد اسم الجنس وهو في معنى الجمع، والمحافظة على الصلاة: إقامتها والمحافظة عليها في أوقاتها، وإتمام ركوعها وسجودها وقراءتها، والمشروع من أذكارها"10.

وهذه هي الصفات التي ذكرها الله – عز وجل – في كتابه عن المؤمنين {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً}11 وما أجملها من صفات، ثم بعد أن ذكر كل هذه الصفات التي وصف بها المؤمنين ذكر – سبحانه وتعالى – الجزاء لمن اتصف بهذه الصفات، وهو أيضاً في سياق المدح لهم فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} أي: الأحقاء بأن يسموا بهذا الاسم دون غيرهم، ثم بيَّنَ الموروث بقوله: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} وهو أوسط الجنة كما صح تفسيره بذلك عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، والمعنى: أن من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهو الوارث الذي يرث من الجنة ذلك المكان، وفيه استعارة لاستحقاقهم الفردوس بأعمالهم، وقيل: أنهم يرثون من الكفار منازلهم حيث فرقوها على أنفسهم؛ لأنه سبحانه خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار، وكما قال في موضع آخر: {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} أي: مكرمون بأنواع الملاذ والمسار.

{هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ومعنى الخلود: أنهم يدومون فيها لا يخرجون منها، ولا يموتون فيها، وتأنيث الضمير مع أنه راجع إلى الفردوس لأنه بمعنى الجنة12، وتلك غاية الفلاح الذي كتبه الله للمؤمنين، وليس بعدها من غاية تمتد إليها عين أو خيال.

هذه هي الصفات، وهذا الجزاء، فأين المشمرون؟ وأين المتسابقون إلى الله وإلى فضله؟

وهذه الصفات إنما يجدها في نفسه وعمله المؤمن الحق، فمن لم يجدها جملة لم يجد صفة الإيمان، نسأل الله – تعالى – أن يجعلنا من أهل هذه الصفات، ومن أصحاب هذا الجزاء إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 سورة المؤمنون (1-11).

2 فضل علم السلف على الخلف (1/7).

3 بتصرف من ظلال القرآن (5/220).

4 سورة القصص (55).

5 سورة الفرقان (72).

6 فتح القدير (5/412).

7 بتصرف من "في ظلال القرآن" (5/223).

8 فتح القدير(5/144 -145) بتصرف.

9 تفسير الطبري (19/11).

10 فتح القدير (5/145).

11 سورة النساء (122).

12 فتح القدير (5/145).