التواضع

التواضع

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فإن الدين الإسلامي الحنيف قائم على التسامح، وتنمية المحبة بين الناس، ومن سماته أنه ينمي الأخلاق، والنفس، ويعمل على إيجاد الخلق الحسن في أوساط المجتمع المسلم؛ كي يتعايش المسلمون دون حواجز أو فروق بينهم، كيف لا والنبي – صلى الله عليه وسلم – قد حدد معلماً من معالم دعوته، وأظهره حين قال – عليه الصلاة والسلام -: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))1.

والتواضع خلق تميز به رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهو أفضل الخلق وأطهرهم، وحياته – عليه الصلاة والسلام – مليئة بالأمثلة والوقائع التي تدل على عظم تواضعه – عليه الصلاة والسلام – ليكون بذلك قد جعل من نفسه مثلاً وقدوة يسير عليها كل من اتبعه وسار على نهجه؛ كي يظهر المسلمون بسلوك جديد لم يألفوه في الجاهلية.

وإن مما يدل على عظم تواضعه – عليه الصلاة والسلام -؛ سيرته، وما جاءت به الكتب التي تحدثت عن شخصيته، وتعامله، ولنأخذ مثلاً من سيرته فقد جاء عَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِيناً، وَأَمِتْنِي مِسْكِيناً، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفاً، يَا عَائِشَةُ لَا تَرُدِّي الْمِسْكِينَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ أَحِبِّي الْمَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))، وكان أبو سعيد الخدري – رضي الله عنه – يقول: ((أَحِبُّوا الْمَسَاكِينَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: ((اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِيناً، وَأَمِتْنِي مِسْكِيناً، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ))2.

هذا هو رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأفضل الخلق على الله؛ يدعو الله أن يجعله من المساكين في حياته، ومماته، وحشره؛ تواضعاً لله – عز وجل -، وخضوعاً وخشوعاً منه – عليه الصلاة والسلام -، فأين الأمة وأين المسلمين اليوم من هذا الخلق النبوي العظيم؟

والتواضع يعرَّف في اللغة بأنه: مصدر تواضع أي أظهر الضعف، وهو مأخوذ من مادة (و ض ع) التي تدل على الخفض للشيء، وحطه، ووضع الشيء من يده يضعه وضعاً وموضعاً وموضوعاً، والتواضع التذلل3.

وأما في الاصطلاح فيعرَّف التواضع على أنه: معرفة المرء قدر نفسه، وتجنب الكبر، ويتطلب أن يتجنب الإنسان المباهاة بما فيه من الفضائل، والمفاخرة بالجاه والمال4.

والتواضع صفة سهلة يسيرة، تبعث في النفس الأنس والراحة، وفي أوساط المجتمع الإخاء، والمحبة، والتسامح، كي يعيش المسلمون في بيئة صافية مؤمنة، يسودها التعامل الطيب، وكل هذه الصفات التي سبقت مما يحثنا عليها، ويأمرنا بها الإسلام، ولعل مما يُوْجِدُ تلك الصفات هي صفة التواضع لله، ولرسوله، وللناس جميعاً؛ وليست على مستوى واحد بين المسلمين بل لها درجات.

درجات التواضع:

التواضع يتفاوت، ويتمايز، ويختلف؛ بحسب قوة إيمان العبد بالله – تبارك وتعالى -، ومن درجات التواضع:

الدرجة الأولى: التواضع للدين:

وهو الانقياد لما جاء عن الله – عز وجل -، وما جاء عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، والاستسلام له والإذعان؛ دون اعتراض أو تأفف أو تأوه، وهذه الأمور لا تتم، ولا تكتمل إلا بوجود ثلاثة أشياء هي:

·       ألا يعارض شيئاً مما جاء به لا بعقل, ولا بقياس، ولا بذوق، ولا بسياسة، ولا بغيرها.

·       ألا يتهم دليلاً من أدلة الدين بفساد، أو نقص الدلالة، أو غيره من الأمور.

·       ألا يجد إلى خلاف النص سبيلاً البتة لا بباطنه، ولا بلسانه، ولا بفعله، ولا بحاله.5

إن حال من لا تنطبق عليه هذه الدرجة بمراتبها الثلاث لا ينطبق عليه إلا قول الشاعر:

وكم من عائب قولاً صحيحاً                 وآفته من الفهم السقيم

ولكن تأخذ الأذهـان منــه              على قدر القرائح والعلوم

إن من يتهم دليلاً من أدلة الشرع الحنيف، أو يعارضها، أو لا يأخذ بها؛ فإنه فاسد الذهن، عنده آفة في عقله، عليل النفس.

الدرجة الثانية: أن ترضى بما رضي الحق به لنفسه عبداً من المسلمين؛ أخاً، وأن لا ترد على عدوك حقاً، وأن تقبل من المعتذر معاذيره: فإذا كان الله قد رضي أن يكون أخوك المسلم له عبداً، أفلا ترضى أنت به أن يكون لك أخاً، فعدم رضاك به أخاً وقد رضيه سيدك – الذي أنت عبده – عبداً لنفسه؛ هو عين الكبر، وأي قبيح أقبح من تكبر العبد على عبد مثله لا يرضى بأخوته وسيده راض بعبوديته.

الدرجة الثالثة: أن تتضع للحق، فتنزل عن رأيك وعن حقك، بمعنى أن تعبد الحق – سبحانه – بما أمر به على مقتضى أمره لا على ما تراه من رأيك، ولا يكون الباعث لك داعي العادة، أو رأي وموافقة هوى؛ بل الباعث مجرد الأمر.6

الآيات في التواضع:

يحثنا الله – تبارك وتعالى -، ويوصينا على هذا الخلق العظيم، والتوسم بهذه السمة النبيلة، ونذكر بعض الآيات التي تدل وتحث على التواضع، وقبل البدء بسرد بعض الآيات ينبغي التنبيه إلى أن كلمة التواضع لم ترد في القرآن الكريم، ولم يأت نص أو أمر قرآني فيه كلمة التواضع؛ إلا أن هناك الكثير من الآيات التي تدل على التواضع، ووردت فيها كلمات بمعنى التواضع، ومن هذه الآيات:

قوله – تعالى -: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}7، وقوله – تعالى -: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور}8، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}9، فهذه الآيات تدل على التواضع، وكيف أن الله – تعالى – أمر نبيه – صلى الله عليه وسلم – بالتواضع، وخفض الجناح لجميع المؤمنين؛كي يحسوا بالأمن، والطمأنينة عند معايشتهم ومخالطتهم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين}10، وكلها آيات تأمر المؤمنين بهذا الخلق النبيل؛ بل تقرر أنه خلق من أخلاقهم، وسمة بارزة فيهم.

وأيضاً أتت السنة النبوية المطهرة متابعة لمنهج القرآن الكريم في ترغيب المؤمنين إلى هذا الحلق العظيم، ومما جاءت به السنة:

   ما ثبت عَنْ قَتَادَةَ قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ))11.

   وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلَّا عِزّاً، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ))12.

   وعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ((مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعاً لِلَّهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا))13.

بعض فضائل التواضع:

وللتواضع فضل عظيم بيَّنه كتاب الله – تعالى -، وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ومن هذه النصوص:

1.  أنه من أخلاق المؤمنين، ودليل على محبة الله، دل عليه قوله – تعالى -: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}14، وحديث حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ – رضي الله عنه – قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ))15.

2.  التواضع يوجب لصاحبه رفع شأنه وذكره دل عليه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه -: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَال: ((مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إِلَّا عِزّاً، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ))16، وكلمة رفعه الله تشمل: أن يرفع شأنه، وذكره، وقدره، وكلها تدخل في معنى الرفع في الدنيا والآخرة، والله أعلم.

شواهد وأمثلة في التواضع:

أولاً: من حياة النبي – عليه الصلاة والسلام -:

·   عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ))17.

·   عَنْ أَنَسٍ – رضي الله عنه -: ((أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً؟ فَقَالَ: يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ، فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا))18.

·   عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ – رضي الله عنه – قال: ((بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ، فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ))19.

ثانياً: أقوال السلف:

·       قال أبو بكر – رضي الله عنه -: "وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع"20.

·       عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "إنكم لمغفلون، أفضل العبادة: التواضع"21.

·   ولما سئل الفضيل بن عياض عن التواضع: ما هو؟ قال: "أن تخضع للحق، وتنقاد له، ولو سمعته من صبي قبلته، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته"22.

·   وقال ابن المبارك – رحمه الله تعالى -: "رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل"23.

·   قال كعب – رضي الله عنه -: "ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله، وتواضع بها لله؛ إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا، ورفع بها درجة في الآخرة، وما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فلم يشكرها ولم يتواضع بها لله إلا منعه الله نفعها في الدنيا، وفتح له طبقاً من النار يعذبه – إن شاء الله -، أو يتجاوز عنه"24.

مجالات التواضع:

إن التواضع لا يكون بأن تبتسم لهذا، وتسلم على هذا؛ بل هو أشمل، وأعمُّ من هذا كله، برز هذا في حياة سيد ولد آدم محمد – صلى الله عليه وسلم -، حيث كان – عليه الصلاة والسلام – أشد الناس تواضعاً سواء كان مع ربه، أو مع الناس، أو مع أهله وبيته، وقد ظهر ذلك من خلال:

1.  تواضعه مع الله – عز وجل -: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: ((جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ، قَالَ: أَفَمَلِكاً نَبِيّاً يَجْعَلُكَ، أَوْ عَبْداً رَسُولاً، قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: بَلْ عَبْداً رَسُولاً))25.

2.  تواضعه مع الناس: كان – عليه الصلاة والسلام – في حياته مع الناس من أشدهم تواضعاً في معايشته لهم – مع أنه رسول الله -، فقد كان كما قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ – رضي الله عنه -: ((إِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ))26، وقد كان يمر على النساء فيسلم عليهن، وعلى الصبيان فيسلم عليهم.

3.  تواضعه مع أهله: ضرب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أروع الأمثلة في التعامل مع أهله، ويظهر من خلاله التعامل الحقيقي الذي يجب أن يتعامل به كل رجل مع أهله، قال هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها – قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي))27، وتبرز هذه الخيرية في عطفه على أهله ومساعدتهم، وقد أظهرت عائشة – رضي الله عنها – جانباً من جوانب التعامل والسلوك الإنساني النبيل والراقي والمتواضع في نفس الوقت في شخصه – عليه الصلاة والسلام – حين سئلت: "مَا كَانَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ (تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ) فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ"28، فهو رسول الله، ومع عظم ما حباه الله من المزايا والخصائص إلا أن هذا لا يمنعه من أن يخفض جناحه لأهله؛ وليعلِّم في نفس الوقت أمته كيفية التعامل الحقيقي في البيت.

ثالثاً: أمثلة من حياة الصحابة والتابعين:

فمما جاء ضمن حياة الصحابة:

·       عن أبي بكر – رضي الله عنه – أنه كان يقول: "لوددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن"29.

·   وعن هشام عن أبيه قال: "رأيت عمر بن الخطاب عام الرمادة مرَّ على امرأة وهي تعصد عصيدة لها، فقال: ليس هكذا تعصدين، ثم أخذ المسوط فقال: هكذا، فأراها"30.

·   وعن الحسن قال: "رأيت عثمان نائماً في المسجد ورداؤه تحت رأسه، فيجيء الرجل فيجلس إليه، ثم يجيء الرجل فيجلس إليه، فيجلس كأنه أحدهم"، وخرج خيثمة معناه ولفظه: "قال رأيت عثمان نائماً في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد، وهو أمير المؤمنين"31.

·   وروى البخاري قال: حدثنا موسى بن بحر قال: حدثنا علي بن هاشم بن البريد قال: حدثنا صالح بياع الأكسية عن جدته قالت: رأيت علياً – رضي الله عنه – اشترى تمراً بدرهم، فحمله في ملحفته، فقلت له، أو قال له رجل: أحمل عنك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، أبو العيال أحق أن يحمل.32

·       وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال: "رأيت أم الدرداء مع نساء المساكين جالسة"33.

وهذه قطوف يسيرة من حياة صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، نكتشف منها أحوالهم، وكيف كان عيشهم وحالهم، في حين أن الدنيا قد بسطت لهم، وفي المقابل بشرهم رسول الله بالجنة.

أما من حياة الصحابة التابعين فإليك بعض الأمثلة:

·       قال طاووس: "إني لأغسل ثوبي".

·       وعن طريف قال: "رأيت الربيع بن خثيم يحمل عرقه إلى بيت عمته".

·       وعن حماد بن زيد قال: "ما رأيت محمد بن واسع إلا وكأنه يبكي، وكان يجلس مع البكائين، والمساكين".

فوائد التواضع:

1.    خلق من أخلاق المؤمنين، وصفة يتميزون بها.

2.    طريق موصل إلى محبة الله.

3.    يؤدي إلى حصول البركة في المال والعمر.

4.    يجعل الإنسان محبوباً عند الله، وعند الناس، وهو سبيل إلى القرب من الله، ومن الناس.

5.    عنوان سعادة العبد في الدارين.

6.    دليل حسن الخاتمة، وحسن الخلق.

إذاً فليحرص كل إنسان أن يكون متواضعاً مع الله – تبارك وتعالى -، ومع رسوله – صلى الله عليه وسلم -، ومع الناس في معاملتهم، فلا يتكبر على أحد مهما بلـغ منـصبه أو مالـه أو جاهه؛ فإن التواضع من أخلاق الكرام المؤمنين بالله، والكبر من أخلاق اللئام المبتعدين عن منهج الله يقول الشاعر:

تَوَاضَعْ تَكُنْ كالنَّجْمِ لاح لِنَاظـِـــــرِ      على صفحـات المــاء وَهْوَ رَفِيــعُ

ولا تَكُ كالدُّخَانِ يَعْلُـــو بَنَفْسـِـــهِ      على طبقــات الجـوِّ وَهْوَ وَضِيــعُ

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 


1 المستدرك على الصحيحين للحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، السلسلة الصحيحة (ج1/ص44).

2 سنن الترمذي (2275)، وهو في السلسلة الصحيحة (ج1/ص307).

3 مختار الصحاح (ج1/ص344).

4 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله (ج1/ص149).

5 موسوعة نضرة النعيم (4-1256) يتصرف.

6 مدارج السالكين (جزء 2 صفحة 337).

7 الحجر (88).

8  لقمان (18).

9  المائدة (54).

10 آل عمران (159).

11 صحيح مسلم (5109).

12 صحيح مسلم (4689).

13 الترمذي (2405)، والسلسلة الصحيحة (ج2/ص 718).

14 لقمان (18).

15 البخاري (4537)، مسلم (5092).

16 مسلم (4689).

17 البخاري (2765).

18 مسلم (4293).

19 البخاري (3628).

20 إحياء علوم الدين (ج3/ص29).

21 الزهد لأبي حاتم الرازي (ج1/ص2).

22 إحياء علوم الدين (ج3/ص28).

23 المصدر السابق.

24 المصدر السابق.

25 أحمد (6863)، وهو في السلسلة الصحيحة (ج3/ص76).

26 البخاري (5610).

27 الترمذي (3830).

28 البخاري (635).

29 الرياض النضرة في مناقب العشرة  (ج1/ص91).

30 الطبقات الكبرى لابن سعد (ج3/ص314).

31 الرياض النضرة في مناقب العشرة (ج1/ص216).

32 الأدب المفرد للبخاري – (ج 2 / ص 322).

33 تاريخ دمشق (ج70/ص159).