صلى خلفهم الحبيب

صلى خلفهم الحبيب

الحمد لله على آلائه ونعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أدخرها ليوم لقائه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وسيد أصفيائه، وخاتم رسله وأنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه، وأصحابه وخلفائه، ورضي الله عن الأئمة المهديين من أمنائه أما بعد:

محمد بن عبد الله  أعظم رجل عرفته البشرية، وأكرم مخلوق وطئ الكرة الأرضية.

عاش حياته  يؤم أصحابه، ويتقدمهم في صلاتهم، ينهلون من هديه، ويستقون من نبعه امتثالاً وانصياعاً لأمره يوم قال: صلوا كما رأيتموني أصلي1، فقضوا عمرهم مع الحبيب يصلي بهم حتى وهو في مرضه، لكن هناك من صلى خلفه محمد ، ولم يصل خلف غيره، وأموه بعدما أمضى سنيه في إمامتهم، وعلى الرغم من كونها وقائع معدودة لم تنقل لنا السير والمغازي سواها؛ إلا أنا سنوردها ليعلم من هم أولئك الذين تشرفوا بصلاة النبي  خلفهم، أو لما جعلهم  أئمة يقتدي بهم في الصلاة.

وجملة أولئك ثلاثة: ملك من الملائكة: وهو جبريل، واثنين من الصحابة وهما: أبو بكر الصديق، وعبد الرحمن بن عوف.

فأما جبريل فقد صلى النبي  خلفه أكثر من مرة، جاء في مسائل الإمام أحمد وابن راهويه مسَأَلة أبو يعقوب الكوسج لابن راهويه يقول: “قُلْتُ لإسحاقَ: وكمْ صلَّى جبريلُ  بالنبي  أربعة أو ركعتين؟ وأين صلَّى به؟ فكان جوابه قَالَ: كلُّ صلاةٍ صلَّى النبيُّ  بمكةَ كانتْ ركعتين ركعتين إلاَّ المغرب ثلاثًا، ما لم  يهاجر إلى المدينةِ، ثمَّ ضمَّ إلى كلِّ ركعتين ركعتان إلاَّ المغرب والفجر تُرِكَا على حالهما، وصلَّى جبريلُ بالنبي  بمكةَ عند المقام مرتين2.

وصلاة جبريل بالنبي  ذكرها الإمام النسائي في سننه الكبرى، فعن جابر بن عبد الله  “أن جبريل  أتى النبي  ليعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل ، ورسول الله  خلفه، والناس خلف رسول الله  ، فصلى الظهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان ظل الرجل مثل شخصه فصنع كما صنع، فتقدم جبرائيل ورسول الله  خلفه، والناس خلف رسول الله  ؛ فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس فتقدم جبرائيل ورسول الله  خلفه، والناس خلف رسول الله ؛ فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق فتقدم جبريل، ورسول الله  خلفه، والناس خلف رسول الله  فصلى العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر فتقدم جبريل، ورسول الله  خلفه، والناس خلف رسول الله  فصلى الغداة، ثم أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه فصنع مثلما صنع بالأمس فصلى الظهر، ثم أتاه حين كان ظل الرجل مثل شخصيه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب، فنمنا ثم قمنا، ثم نمنا ثم قمنا، فأتاه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العشاء، ثم قال: ما بين هاتين الصلاتين وقت”3.

وأما من نالوا شرف إمامة النبي  خلفهم من الصحابة فكما أسلفنا أنه  لم يصل إلا خلف اثنين من صحابته، وواقعة إمامة عبد الرحمن بن عوف ثابتة، بخلاف إمامة أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما – فقد وقع فيها نزاع، إذ كثير من الروايات لا تذكرها بنفي ولا إثبات، لكن يفهم منها عدم الإمامة، وبعض الروايات تنص على ذلك منها: ما أورده الإمام أحمد عن مسروق عن عائشة: إن أبا بكر صلّى بالناس ورسول الله  في الصف، ونقل البيهقي عن عائشة: أن رسول الله  صلّى خلف أبي بكر، وهذا إسناد جيد ولم يخرجوه.

ونقل مثله عن أنس بن مالك: أن رسول الله  خرج وأبو بكر يصلّي بالناس، فجلس إلى جنبه… فصلّى بصلاته، وذكر أنس: أن آخر صلاة صلاّها رسول الله  مع القوم في ثوب ملتحفاً به خلف أبي بكر، قال ابن حجر: وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح، ولم يخرجوه.4

إلا أن ابن حجر تعقبه في الفتح بكلام يرجح فيه صحة عدم ثبوت صلاة النبي خلف أبي بكر الصديق، يقول: وفوق هذا وذاك نجد أُم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – وهي راوية عدد كبير من أحاديث الصلاة هذه؛ تعود فتذكر اختلاف الناس في هذه القضية، فمن الناس من يقول: كان أبو بكر المقدّم بين يدي رسول الله  في الصف، ومنهم من يقول: كان رسول الله هو المقدّم، وعائشة لم تشاهد الهيئة المذكورة، ولكن تظافرت الروايات عنها بالجزم بما يدل على أن النبي  كان هو الإمام في تلك الصلاة، ولم يكن أبو بكر…5، لكن لو استقرأنا الروايات نجد أن النبي  أقره على إمامته في حادثة أخرى كما جاء في المعجم الكبير عن سهل بن سعد  قال: خَرَجَ رسول اللَّهِ  لِيُصْلِحَ بين بني عَمْرِو بن عَوْفٍ في شَيْءٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ، …  فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ فَأَذَّنَ بِلالٌ فَاحْتَبَسَ رسول اللَّهِ  ، وَتَقَدَّمَ أبو بَكْرٍ  يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَجَاءَ رسول اللَّهِ  فأَخَذَ الناس في التَّصْفِيحِ، وكان أبو بَكْرٍ رَجُلاً لا يَلْتَفِتُ في الصَّلاةِ، فلما سمع ذلك الْتَفَتَ فَأَبْصَرَ رَسُولَ اللَّهِ  ، فَأَشَارَ إليه رسول اللَّهِ  أَنِ اثْبُتْ فَرَجَعَ القهقرى، وَتَقَدَّمَ رسول اللَّهِ  ، فلما قَضَى رسول اللَّهِ  صَلاتَهُ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فقال: يا أَبَا بَكْرٍ ما مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ حين أَشَرْتُ إِلَيْكَ؟ فقال: ما كان اللَّهُ لِيَرَى ابن أبي قُحَافَةَ بين يَدَيْ رسول اللَّهِ   …))6، ولقد حمل بعضهم إشارة النبي  له إن أثبت أنها دلالة على تبْويِِه مقام الإمامة وإن لم يؤم، فجعلوه كأنه في مقام من أمَّ.

أما صلاة النبي  خلف عبدالرحمن بن عوف  فقد أوردها البخاري عن عمرو بن وهب الثقفي يقول: كنا عند المغيرة فقيل: هل أمَّ النبي  أحد غير أبي بكر؟ قال: “كنا مع النبي  في سفر، ثم ركبنا فأدركنا الناس وقد أقيمت الصلاة، فتقدم عبد الرحمن بن عوف وصلى بهم ركعة وهم في الثانية، فذهبت أوذنه فنهاني، فصلينا الركعة التي أدركنا، وقضينا الركعة التي سبقنا7.

والحادثة حصلت في غزوة تبوك، كما جاء أنه ذهب رسول الله  في غزوة تبوك لحاجته، فتقدم عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم ركعة من الصبح، وجاء النبي  فأدرك معه الركعة الثانية فصلاها خلف عبد الرحمن بن عوف، ثم قضى ما فاته، ففزع الناس لذلك، فقال لهم رسول الله : قد أحسنتم يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقته8، قال الشافعي: يعني أول وقته9.

ومن حادثة اقتدائه بالصحابي أخذ بعض الأئمة “جواز أن يقدم رجلاً أو يتقدم فيصلى بقوم بغير أمر الوالي الذي يلي الصلاة، أي صلاة حضرت: من جمعة، أو مكتوبة، أو نافلة؛ إن لم يكن في أهل البلد والي، وكذلك إن كان للوالي شغل أو مرض، أو نام أو أبطأ عن الصلاة”10.

وقاس عليها صاحب المجموع: “إذا لم يحضر الإمام فإن كان للمسجد إمام راتب قريب فالمستحب أن ينفذ إليه ليحضر؛ لأن في تفويت الجماعة عليه افتياتاً عليه، وإفساداً للقلوب، وإن خشي فوات أول الوقت لم ينتظر، لأن النبي  ذهب ليصلح بين بنى عمرو بن عوف فقدم الناس أبا بكر  ، وحضر النبي وهم في الصلاة، فلم ينكر عليهم.

قال الشافعي والأصحاب: “إذا حضرت الجماعة ولم يحضر إمام فإن لم يكن للمسجد إمام راتب قدموا واحداً، وصلى بهم، وإن كان له إمام راتب فإن كان قريباً بعثوا إليه من سيعلم خبره؛ ليحضر أو يأذن لمن يصلي بهم، وإن كان بعيداً، أو لم يوجد في موضعه؛ فإن عرفوا من حسن خلقه أنه لا يتأذى بتقدم غيره، ولا يحصل بسببه فتنة؛ استحب أن يتقدم أحدهم، ويصلي بهم للحديث المذكور، ولحفظ أول الوقت، والأولى أن يتقدم أولاهم بالإمامة، وأحبهم إلى الإمام، وإن خافوا أذاه أو فتنة انتظروه، فإن طال الانتظار، وخافوا فوات الوقت كله؛ صلوا جماعة هكذا؛ ذكر هذه الجملة الشافعي.11

وخلاصة ما صلاه النبي  خلف غيره اثنا عشر صلاة، عشر صلوات خلف جبريل ، وواحدة خلف عبدالرحمن بن عوف  في الفجر، وواحدة وراء أبي بكر  إن ثبتت، والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين.


1 رواه البخاري برقم (595).

2 مسائل الإمام أحمد وابن راهويه (1/221).

3 سنن النسائي برقم (510).

4 البداية والنهاية 237.

5 فتح الباري (2/124).

6 رواه النسائي برقم (5318).

7 القراءة خلف الإمام للبخاري وقال الألباني إسناده صحيح أرواء الغليل (2/260).

8 رواه أحمد برقم (17469).

9 معرفة السنن والآثار (2/400).

 10الأم (1/182).

11 المجموع (4/ 207).