السؤال في المسجد

السؤال في المسجد

 

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن بهديهم اهتدى.. أما بعد:

فإن هناك ظاهرة منتشرة على نطاق واسع في كثير من البلدان، فلا يكاد يخلو مكان من وجودها، إنها ظاهرة التسول، فما أن يذهب الإنسان إلى المرافق الحكومية إلا وجد المتسولين على أبوابها، وما أن يمشي في الشارع إلا رآهم على أرصفتها، وما أن  يذهب إلى الأسواق إلا رآهم يتجولون على محلاتها، وإذا ما راح إلى المساجد لأداء الصلوات فلا يكاد يخلو بعض المساجد على مر الصلوات الخمس من سائل على الأقل.

وأما في بعض المساجد الشهيرة والمزدحمة فقد ترى أكثر من متسول كلهم يسأل الناس أن يعطوه، وبصوت مرتفع، دون مراعاة لآداب المسجد وأحكامه، بل وحتى آداب الكلام، بل لربما رأيت النساء عقب الصلوات قابعات على أبواب المسجد يسألن الناس، حتى أصبح التسول عند بعض المتسولين وظيفة يقوم بها، وذلك لأنه وجد أنه ببذله لماء وجهه، ونزعه لحيائه، وسؤاله للناس، يجمع دراهم كثيرة!، ربما لا يقدر على جمعها فيما لو قام بعمل غير هذا على حد ظنه، وحتى أصبح الناس لا يستطيعون أن يميزوا بين من هو محتاج فيساعدوه، وبين من هو كاذب فيدعوه ويذموه، وذلك لكثرة المتسولين.

بل إن للمتسولين أساليب متعددة، وحيل مخيفة، وصور متنوعة، فلربما ربط أحدهم قربة فارغة – قنينة الماء – بخيط في حقوه من تحت إزاره، ثم يقوم بوضع نوع من أنواع الشراب -فيمتو- مثلاً، في تلك القربة، ثم يقوم فيسأل الناس، ويخبرهم بأنه مصاب بمرض السرطان – والعياذ بالله –  كما يزعم.

وقصص المتسولين وكذبهم، ونصبهم واحتيالهم كثيرة جداً. فينبغي للناس أن يتثبتوا في شأن ذلك السائل، فإن كان حقاً يحتاج إلى المال فليعطوه مما أعطاهم الله، بل يحرم عليهم أن ينهروه، قال الله -تعالى-: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} 1. وأما إن كان كاذباً محتالاً فلينصحوه، وليبينوا له أنه لا يجوز ذلك، بل الأفضل له أن يذهب فيعمل، فهو خير له من أن يسأل الناس. ولذلك فإن العلماء قد تكلموا عن حكم السؤال في المسجد أو في خارجه، فمنهم من حرمه، ومنهم من كرهه، ومنهم من أجازه بشروط، وفي حالات معينة، وذلك تبعاً لورود أدلة تدل على منعه مطلقاً، وأدلة تدل على جوازه في حالات معينة، وبشروط محددة، ولكن الذي تطمئن إليه النفس، وهو الموافق – إن شاء الله – لسماحة وعدل الشرع الحنيف أن يجمع بين تلك الأقوال فيقال: الأصل في سؤال الناس التحريم في المسجد أو في خارج المسجد؛ وإنما يجوز في حالات معينة؛ فعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحمَّلت حمالة2 فأتيت رسول الله r أسأل فيها فقال: " أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها " قال: ثم قال: " يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمَّل حمالة فحلَّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، أو  قال: سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، فما سواهن من  المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً " 3. فهؤلاء الثلاثة الأصناف يجوز لهم السؤال داخل المسجد أو خارجه، فإذا ما أصابوا حاجتهم، وسدوا فاقتهم، فليمسكوا عن السؤال.

وأما غيرهم فلا يجوز لهم السؤال في المسجد أو في خارجه؛ فعن حبشي بن جنادة السلولي قال: سمعت رسول الله r  يقول في حجة الوداع، وهو واقف بعرفة، أتاه أعرابي فأخذ بطرف ردائه، فسأله فأعطاه وذهب، فعند ذلك حرمت المسألة فقال: رسول الله r : "إن المسألة لا تحل لغني، ولا لذي مِرَّة – أي صاحب القوة على الكسب والعمل –  سَوِيّ – صحيح سليم الأعضاء -، إلا لذي فقر مدقع، أو غرم مفظع، ومن سأل الناس ليثري به ماله كان خموشاً في وجهه يوم القيامة ورضفاً – وهو الحجر المحمي –  يأكله من جهنم ومن شاء فليقِلّ، ومن شاء فليكثر " 4، وعن ابن عمر y قال: قال رسول الله r : " لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم" 5.

وعن أبي هريرة t  قال: قال رسول الله r : " من سأل الناس أموالهم تكثُّراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر " 6 . وجاء في كتاب (غذاء الألباب) أن ابن تيمية  – قدس الله روحه – سئل عن حكم السؤال في المسجد فقال: أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد إلاّ للضرورة، فإن كانت ضرورة وسأل في المسجد، ولم يؤذ أحداً كتخطيه رقاب الناس، ولم يكذب فيما يرويه ويذكر من حاله، ولم يجهر جهراً يضر الناس، مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو هم يسمعون علماً يشغلهم به ونحو ذلك جاز 7.

والله أعلى وأعلم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


1 الضحى(10).

2 – الحمالة: هي ما يتحمله الرجل من دَين إذا أصلح بين اثنين أو قبيلتين، فدفع لأحدهم مالاً، فيعطى من مال الزكاة، وهو المذكور في الآية: ( والغارمين).

3 رواه مسلم والنسائي وأبو داود.

4 رواه الترمذي وأحمد. وهو حديث صحيح كما في ( غاية المرام ) للألباني برقم ( 152 ).

5 رواه البخاري ومسلم.

6 رواه مسلم وأحمد وابن ماجه.

7 – انظر غذاء الألباب 2/267.