البعد الإيماني التربوي للهدي والذبائح

البعد الإيماني التربوي للهدي والذبائح

 

الحمد لله رب العالمين، ولاعدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:1

يقول عز من قائل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}2.

يذكر القرآن الكريم هذه الذبائح على أنها شعيرة معروفة في شتى الأمم; وإنما وجهها الإسلام وجهتها الصحيحة حين يتوجه بها إلى الله وحده دون سواه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}3.

والإسلام دين يوحد المشاعر والاتجاهات، ويتوجه بها كلها إلى الله، ومن ثم يعنى بتوجيه الشعور والعمل، والنشاط والعبادة، والحركة والعادة; إلى تلك الوجهة الواحدة، وبذلك تصطبغ الحياة كلها بصبغة العقيدة.

وعلى هذا الأساس حرم من الذبائح ما أُهِلَّ لغير الله به; وختم ذكر اسم الله عليها حتى إنه ليجعل ذكر اسم الله هو الغرض البارز وكأنما تذبح الذبيحة بقصد ذكر اسم الله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}، ويعقب بتقرير الوحدانية: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، وبالأمر بالإسلام له وحده: {فَلَهُ أَسْلِمُوا}، وليس هو إسلام الإجبار والاضطرار وإنما هو إسلام التسليم والاطمئنان: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فبمجرد ذكر اسم الله يتحرك الوجل في ضمائرهم ومشاعرهم، {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} فلا اعتراض لهم على قضاء الله فيهم، {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} فهم يعبدون الله حق عبادته، {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} فلا يضنون على الله بما في أيديهم.

وهكذا يربط بين العقيدة والشعائر، فهي منبثقة من العقيدة وقائمة عليها، والشعائر تعبير عن هذه العقيدة ورمز لها، والمهم أن تصطبغ الحياة كلها ويصطبغ نشاطها كله بتلك الصبغة، فتتوحد الطاقة، والاتجاه، ولا تتمزق النفس الإنسانية في شتى الاتجاهات.

ويستطرد السياق في تقرير هذا المعنى وتوكيده وهو يبين شعائر الحج بنحر البدن: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}4 فيخص البدن بالذكر؛ لأنها أعظم الهدي، ويقرر أن الله أراد بها الخير لهم، فجعل فيها خيراً وهي حية تركب وتحلب، وهي ذبيحة تهدى وتطعم، فجزاء ما جعلها الله خيراً لهم أن يذكروا اسم الله عليها، ويتوجهوا بها إليه، وهي تهيأ للنحر بصف أقدامها: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ}، والإبل تنحر قائمة على ثلاث، معقولة الرجل الرابعة، {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}، واطمأنت على الأرض بموتها؛ أكل منها أصحابها استحباباً، وأطعموا منها الفقير القانع الذي لا يسأل، والفقير المعتر الذي يتعرض للسؤال، فلهذا سخرها الله للناس ليشكروه على ما قدر لهم فيها من الخير حية وذبيحة {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وهم حين يؤمرون بنحرها باسم الله {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} فإن اللحوم والدماء لا تصل إلى الله سبحانه، إنما تصل إليه تقوى القلوب وتوجهاتها – لا كما كان مشركو قريش يلطخون أوثانهم وآلهتهم بدماء الأضحيات على طريقة الشرك المنحرفة الغليظة! -.

{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} فقد هداكم إلى توحيده والاتجاه إليه، وإدراك حقيقة الصلة بين الرب والعباد، وحقيقة الصلة بين العمل والاتجاه، {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} الذين يحسنون التصور، ويحسنون الشعور، ويحسنون العبادة، ويحسنون الصلة بالله في كل نشاط الحياة.

وهكذا لا يخطو المسلم في حياته خطوة، ولا يتحرك في ليله أو نهاره حركة؛ إلا وهو ينظر فيها إلى الله – سبحانه وتعالى -؛ فهو مقصده وغايته، وناصره ورازقه {لَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ}5.

اللهم وفقنا لحج بيتك، وزيارة مسجد نبيك – صلى الله عليه وسلم -، واجمعنا به في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وصلى الله على محمدٍ وآله، والحمد لله رب العالمين.


1 قراءة أدبية في سورة الحج بتصرف من تفسير الضلال لسيد قطب – رحمه الله -.

2 الحج (34-37).

3 الحج (34-35).

4 الحج (36-73).

5 النحل (52).