رؤية الهلال بين الرؤية الشرعية والفلكية

رؤية الهلال بين الرؤية الشرعية والفلكية

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الله تعالى قد شرع لعباده سنن الهدى والرشاد، وجنبهم سبل الغواية والضلال، وأرسل إليهم رسولاً ختم به المرسلين، وجعل شرعه حجة على الناس أجمعين، فجاءت شريعته كاملة في كل جوانبها صالحة لكل زمان ومكان، لأن الذي شرع الشرع وأتقنه قد علم ما كان وما يكون إلى ما لا نهاية له، فكل أحكام الإسلام معجزة عظمى لنبينا -صلى الله عليه وسلم- حيث أنها هذبت البشرية ولم تعرف الراحة والسعادة إلا في ظل الإسلام، أما النظم الأرضية والقوانين البشرية والأحكام الوضعية الصادرة من شياطين الجن والإنس فإنها لم تزد العالم إلا شقاء ونكداً ودماراً وحروباً وظلماً، ولن ترتاح البشرية ويحصل لها السعد والخير والبركات والفوز الأبدي إلا باتباع نهج خاتم المرسلين المبني على علم الله وحكمته، كما قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (14) سورة الملك.

وبين أيدينا مسألة مهمة اختلف فيها الناس في عصرنا، وهي أن الأصل في اعتماد دخول الشهر وخروجه الرؤية الشرعية، لكن مع تطور وسائل الاتصال والاكتشاف الهائلة، فهل يجوز اعتماد الحساب الفلكي في دخول الشهر وخروجه، سواء شهر رمضان أو غيره؟

بين يدينا فتوى للشيخ محمد إسماعيل المقدم، ننقلها هنا بكاملها لأهمية ما جاء فيها..

يقول الشيخ -حفظه الله- مجيباً على السؤال التالي: ما الحكم الشرعي في إثبات دخول الشهر القمري بالحساب الفلكي؟

"من أفضل ما قيل في هذه القضية مقال كتبه العلامة المستشار عبد المقصود شلتوت -حفظه الله- ملخصه:

أن في الاعتماد على الحساب الفلكي لإثبات دخول الشهر القمري خطآن جسيمان:

أولهما: إسقاط العلة الشرعية الموجبة للصوم والإفطار وهي الرؤية البصرية.

والثاني: إحداث علة للصوم والفطر لم يشرعها الله وهو الحساب الفلكي وإضفاء الحجية عليها.

أما الأول: فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُم عليكم فاقدروا له ثلاثين)1، وقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة).2

وقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما).3

والأحاديث في هذا كثيرة، وهي تدل على أن المعتبر في ذلك هو رؤية الهلال أو كمال العدة.

وليس المقصود من هذه الأحاديث أن يرى كل واحد الهلال بنفسه، وإنما المراد بذلك شهادة البينة العادلة، فقد صح عن ابن عمر –رضي الله عنهما– قال: "تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بالصيام".4

وفي الاعتماد على الحساب الفلكي إهدار للعلة الشرعية، وإسقاط لحجية الرؤية الشرعية والحجية القضائية لحكم المحاكم الشرعية، واعتبار لما ألغاه الشرع وهو الحساب الفلكي، وشذوذ عن اتفاق من يعتد به من أهل العلم وفقهاء المذاهب الذين حُكي عنهم الإجماع على عدم جواز العمل به".

ويترتب عليه عند معارضته مع الرؤية الشرعية:

1- إعدام صوم أول رمضان إذا كانت المخالفة بدايته.

2- إعدام فطر يوم العيد إذا كانت المخالفة في نهايته.

وبالتالي: انتهاك حرمة النص القرآني {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (185) سورة البقرة، وحرمة نص السنة الشريفة: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) وانتهاك حرمة الصوم بمنع الناس من صيام أول رمضان، وانتهاك حرمة العيد بمنعهم من إفطار يومه، مما يؤدي إلى تعطيل أحكام الله، وإثارة القلاقل والاضطراب، وزيادة الفرقة والانقسام بين المسلمين.

وأما بالنسبة للخطأ الثاني: فهو إحداث علة للصوم والفطر لم يشرعها الله سبحانه وهي الحساب الفلكي وإضفاء الحجية عليها، وبيان ذلك:

أن الله سبحانه وتعالى ربط أحكامه بعلل وأسباب شرعية فإذا وجدت العلة الشرعية وجد حكم الله، وإذا انتفت انتفى حكم الله، ولا يملك أحد أن يغير هذه العلل ولا أن يبدلها.

وقد ثبت بالكتاب والسنة أن علة وجوب الصوم والفطر هي المشاهدة ورؤية الهلال بصرياً.

وليست العلة مجرد وجوده علمياً، في السماء من غير رؤية حسية بالعين، قال تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)، فرتب وجوب الصوم والفطر على رؤية الهلال بالعين، لا على العلم بوجود الهلال فلكياً دون رؤية بصرية، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل: صوموا لوجود الهلال أو ثبوته، حتى يعم الوجود كلاً من الوجودين الفلكي والبصري، بل قال: (صوموا لرؤيته)، والرؤية أخص من الوجود، فقد يوجد الهلال فلكياً ولكن لا يُرى لأسباب كثيرة، فلا يجب الصوم، أضف إلى هذا أن الشق الأخير من الحديث يدل دلالة قاطعة على أن وجود الهلال ليس هو العلة، وإنما العلة هي تحقق الرؤية الحسية الملموسة، وذلك لأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن غم عليكم) أو (حال بينكم وبينه سحاب) كما في بعض الروايات، يفيد بأنه عند وجود الهلال وراء الغيم أو غيره يجب عدم الصوم، وإكمال الشهر ثلاثين يوماً، مما يقطع بأن العلة ليست هي مجرد وجود الهلال، وإنما هي أخص من ذلك، ألا وهي : تحقق الرؤية البصرية.

وبهذا ألغى الشارع الحكيم اعتبار الوجود العلمي للهلال علة للصوم أو الفطر، وأكد على أن الوجود الحسي البصري هو العلة، وليس ذلك لأن قوة درجة الحساب الفلكي في الإثبات أقل من درجة الشهادة على الرؤية، أو لعدم صحة مقدمات ونظريات علم الفلك ولكن لأن رحمة الله بعباده اقتضت أن يعلق أسباب عبادتهم وعللها بأمور حسية ملموسة لكل المكلفين، دفعاً للحرج والمشقة على الناس، وأن تكون علل الأحكام وأسبابها ثابتة وحسية وعامة يسهل إدراكها لجميع المكلفين دون مشقة، وألا ترتبط هذه العبادات بأمور عقلية علمية معنوية لا يدركها كل الناس، ولا كل من يريد أن يلتمسها حتى يتحقق عموم العلة مع عموم التكليف، ويسر إدراكها مع يسر أدائه.

إن الله سبحانه يعلم ما سيصل إليه علم الفلك من شأن عظيم في مستقبل الأيام، لكنه سبحانه ألغى اعتباره في إثبات علل العبادات، وذلك فيما أوحاه إلى رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي صح عنه قوله: (إنا أمة أمية لا نكتب، ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) وأشار بيده".، أى : تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً، فهذا دليل واضح على رفض الأخذ بالحساب الفلكي في إثبات الأهلة، إذا كلفنا أن نتعامل في ذلك وكأننا أميون في الحساب الفلكي، لا نكتب ولا نحسب، وليس في ذلك تنقص أو إزراء بعلم الفلك، ولكن المقصود أن لعلماء الفلك مجالاً رحباً في بعض شئون الحياة، خارج المسائل الشرعية، فإنه ليس لهم أي دور في إثبات علل وأسباب العبادات التي ربط الله علل أحكامها بأسباب حسية ملموسة.

وقد أجمع الفقهاء على الالتزام بالعلة الشرعية للصوم وهي الرؤية البصرية للهلال، وأجمعوا على رفض الأخذ بالحساب الفلكي سواء في ذلك حالة الصحو أم حالة الغيم (5) إلا من شذ من المتأخرين وأحدث سبباً لم يشرعه الله، ولا عبرة بهذا الشذوذ مع انعقاد الإجماع الفقهي قبله (6) والإجماع العملي أيضاً: فقد جرى العمل في كافة العصور الإسلامية الزاهرة، حيث تقدم المسلمون في علم الفلك، وأنشئوا المراصد الفلكية، ومع ذلك منعوه من الدخول في مجال العلل الشرعية للأحكام، بل لا يكاد يُعرف قاض –منذ عرف الإسلام القضاء إلى اليوم– قضى بالحساب الفلكي. ولا زال القضاة يلون استشراف الهلال بأنفسهم، أو ينتظرون الشهود العدول بالمحاكم حتى يجيئوا لهم. والمحاكم الشرعية العليا في مصر لم تأخذ قط في إثبات الرؤية بالحساب الفلكي منذ أنشئت إلى أن ألغيت، وكذلك دار الإفتاء من بعدها، حتى نبغ مفتى آخر الزمان وأحدث هذه البدعة، ونبذ العلة الشرعية أعنى الرؤية البصرية للهلال، وأحدث علة للصوم لم يشرعها الله وهى العلم الفلكي بوجود الهلال، وشذ عن إجماع الأمة العلمي والعملي من عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى وقتنا هذا، وأضفى على الحساب الفلكي الحجية اليقينية مع أنه مبني على أمور ظنية وحسابية وجبرية، وأجهزة فلكية، وكلها ظنية تحتمل الخطأ والصواب، وليس أدل على ذلك من تعارض تقاويم الفلكيين أنفسهم في حساباتهم الفلكية، والذي يبنى على الظن لا يقيم اليقين لقيام شبهة الخطأ) انتهى الكلام بتصرف.

لكن يبقى التنبيه إلى ثلاث قضايا:

الأولى: أن (حقيقة الشهر عند الفلكيين هي المدة بين اجتماع الشمس والقمر مرتين بعد الاستسرار وقبل الاستهلال، ومقداره عندهم هو (29) يوماً، و (12) ساعة و(44) دقيقة.

أما حقيقة الشهر الشرعية: فهي الرؤية له عند الغروب، أي: أول ظهور القمر بعد السواد، ومقدار الشهر الشرعي هو لا يزيد عن (30) يوماً، ولا ينقص عن (29) يوماً.

وعليه فإن هناك فروقاً بين الاعتبارات الشرعية والاعتبارات الفلكية في عدة أمور:

1- أن الشهر يبتدئ عند الفلكيين قبل البدء بالاعتبار الشرعي، ونتيجة لذلك فهو ينتهي قبله.

2- أن الشهر مقدر بوحدة زمنية ثابتة عند الفلكيين تختلف عن مدته بالاعتبار الشرعي كما هو مبين آنفاً.

3- أن الشهر يبتدئ باعتبار الشرع بطريق الحس، والمشاهدة بالعين الباصرة، أو بالإكمال بخروج الهلال حقيقة، أما باعتبار الفلكيين فهو: بتقدير خروجه لا بخروجه فعلاً.

4- عند الفلكيين: لا فرق بين أن يتم الاقتران والانفصال ليلاً أو نهاراً، فلو حصل الاقتران والانفصال قبيل الفجر فاليوم عندهم هو بعد الفجر مباشرة، ولو حصل أثناء النهار فإن الشهر يبتدئ في اللحظة التالية له، أما باعتبار الشرع: فالمعتبر الرؤية بعد الغروب، فلو رؤي نهاراً بعد الزوال فهو لليلة المقبلة، ولا يصام ذلك النهار الذي رؤى فيه، وهذا بلا نزاع بين أهل العلم) أ هـ . من " فقه النوازل " (2/174 ) .

الثانية: أنه يجب التفريق بين أمرين متباينين: أحدهما: الخلاف الفقهي السائغ بين العلماء في قضية اختلاف المطالع، وثانيهما: عدم جواز الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد بداية الشهر وانتهائه؛ لأن الخلاف فيها غير سائغ لشذوذه عن الإجماع، والعلماء مع اختلافهم في قضية اختلاف المطالع متفقون على أن سبيل تحديد بداية الشهر ونهايته هو الرؤية الشرعية لا الحساب الفلكي، ولقد رأينا من يخلط بين الأمرين، ويستدل بكلام العلماء في القضية الأولى على القضية الثانية فلزم التنبيه.

الثالثة: وهي نصيحة لمن يخالف المفتي الرسمي في بلده إذا ثبت أنه يعتمد على الحساب الفلكي: أن لا يستعلن بالمخالفة لعموم المسلمين في بلده بل يستتر بالمخالفة، ويعمل بالرؤية الشرعية في خاصة نفسه، ولا يدعو بلسان الحال أو المقال الملأ إليها، سداً لذريعة التهارج بين المسلمين، ودرءاً للفتن، وجمعاً للكلمة، وتفويتاً لمقاصد العلمانيين والمنافقين من أعداء الدين الذين يعتلون الموجة لتشكيك الناس في دينهم، ومحاولة النيل من قدسية الصيام في نفوس العامة، وقانا الله وسائر المسلمين شر أعداء الدين.


1 رواه البخاري ومسلم، بألفاظ متقاربة.

2 رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني.

3 رواه مسلم.

4 رواه أبو داود والدارمي وابن حبان، وقال الأعظمي في تحقيق سنن الدارمي: "إسناده صحيح". وصححه الألباني.

5  –ولم يعرف خلاف بين الصحابة – رضي الله عنهم – في ذلك، بل حكى شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- اتفاقهم عليه، وحكاه المهدي في " البحر "، ومذاهب الأئمة الأربعة متفقة على ذلك، قال مالك – رحمه الله تعالى – : "إن من يصوم بالحساب لا يُقتدى به"، وقال ابن عرفه : " لا أعرفه لمالكي"، وممن حكى الإجماع على موجبه : ابن المنذر في " الإشراف "، وسند من المالكية، والباجي، واببن رشد القرطبي، والحافظ ابن حجر، والسبكي، والعيني، وابن عابدين، والشوكاني، وصديق حسن خان، وملا علي قاري، وقال الشيخ أحمد شاكر : " واتفقت كلمتهم أو كادت تتفق على ذلك" أ .هـ بتصرف من " فقه النوزال " (2/156)

6 – انظر تفصيل ذلك في "فقه النوازل " (2/158 – 169)