كذلك نجزي المحسنين

كذلك نجزي المحسنين

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد عبده ورسوله النبي المختار الأمين، الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

كأني بنبي الله يوسف -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- إذ ذكر الله عنه ما ذكر من المعاناة التي أصابته، والكيد الذي كاده له إخوته، وكأني به وهم يدفعونه دفعاً لا يعلم إلى أين يساق، وليس ثمة ذنب ارتكبه إلا الغيرة والحسد عليه؛ إذ كان محبوباً عند أبويه، ثم لكأني به يتشبث بثيابهم ويقول لهم: إني أحبكم وأحب أن أعود معكم فلا تتركوني، وهكذا يُنزع قميصه ويوضع في شفير البئر ليرمى فيها فيتشبث بشفيرها لينجو من الهلاك، لكنهم لم يرحموه، بل رموه هنالك، {وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ} (16) سورة يوسف. {وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (18) سورة يوسف.

ولكن الله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، نعم، حفظ يوسف ونجاه من الهلاك، لقد جاءت إلى شفير تلك البئر جماعة من الناس ليشربوا، فوجدوه فيها، فأخذوه فبيع في أسواق مصر فأُكرم أيما إكرام إذ قال الملك لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} (21) سورة يوسف.

لقد تربى ونشأ في قصر الملك، بعيداً عن أبويه لكنه عاش في نعمة وإكرام، حتى بلغ أشده واستوى، فآتاه الله الحكم والنبوة، وفي ذلكم يقول الله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (22) سورة يوسف.

لقد ختم سبحانه الآية بقوله:{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} فلِمَ لم يقل وكذلك نجزي المسلمين؟ أو المؤمنين، أو الصالحين؟! ومثل هذا الموضع يقول الله تعالى عندما تحدث عن موسى –عليه الصلاة والسلام-: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (14) سورة القصص. فلم هذا الوصف خاصة وليس سواه؟

إخواني:

ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان جالساً ذات يوم مع أصحابه يقول الراوي -وهو عمر بن الخطاب –رضي الله تعالى عنه-: "إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ، قَالَ: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ، قَالَ: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)"…الحديث1.

"إن المتأمل لهذا الحديث يجده قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشبعة منه.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: إن الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، هذا من جوامع الكلم التي أوتيها -صلى الله عليه وسلم- لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه -سبحانه وتعالى- لم يترك شيئاً مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به فقال -صلى الله عليه وسلم-: اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان؛ فإن التتميم المذكور في حال العيان إنما كان لعلم العبد باطلاع الله -سبحانه وتعالى- عليه فلا يقدم العبد على تقصير في هذا الحال للاطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد فينبغي أن يعمل بمقتضاه فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة ومراقبة العبد ربه -تبارك وتعالى- في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك!"2.

إن أنبياء الله ومن شاكلهم من المؤمنين الصادقين، هذا هو حالهم، لا يزالون يترقون في مراتب الدين حتى يصلوا إلى تلكم المرتبة الشريفة مرتبة الإحسان، فهم يراقبون الله في السر والعلن وبذلك ينالون الشرف العظيم والأجر الجزيل، وهم يؤدون ما أمرهم الله كما يجب، ويتقربون إليه، ويدعونه رهباً ورغباً وهم له خاشعون، ويجتنبون ما حرم الله من الموبقات، فلا لا يظلمون، ولا يرتشون ولا يسرقون، وإذا خلوا بمحارم الله حفظوها وما ضيعوها، وشعارهم في ذلك: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (4) سورة الحديد. فبذلك كانوا من المحسنين الذين يهبهم الله من بركاته ويعلمهم الحكمة ويؤتيهم من فضله، فيرفعهم بين خلقه في الدنيا بالعلم والصلاح، وفي الآخرة لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون.

إن يوسف –عليه السلام- حفظ وما ضيع، وراقب ربه وله خضع، وجاءته محنة الشهوة، بعد ما ابتلي بما ابتلي منذ نعومة أظفاره، إذ راودته التي هو في بيتها عن نفسه، {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (23) سورة يوسف.

لقد كان مع ربه سراً وجهراً فهنالك بالحق صدع، فصبر ورأى برهان ربه فترك الشهوة جانباً وقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (33) سورة يوسف. فلذلك كان من المحسنين.

إنه راقب الله تعالى حين أرادته تلك المرأة بجمالها وشدة عشقها له وبمالها وملكها وعزلتها وبعدها عن الناس ومع ذلك: "معاذ الله" فكان حقاً مستحقاً لهذه الوسام الإلهي العظيم: "وكذلك نجزي المحسنين" ووسام آخر: "إنه من عبادنا المخلصين"

فاحرصوا -إخواني- على مراقبتكم لربكم ومجاهدة أنفسكم لبلوغ تلك الغاية العظيمة، فالله ذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.


1 رواه مسلم برقم (9) (ج1/ص87).

2 شرح النووي على مسلم (ج 1 / ص 70).