ما بعد الدنيا من دار .. إلا الجنة أو النار

ما بعد الدنيا من دار.. إلا الجنة أو النار

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان وطاعة وخير وبر إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وهي بالنسبة للآخرة كالقطرة من البحر، والدنيا محطة للتزود من الأعمال الصالحة، التي تكون سبباً في نجاة العبد يوم القيامة من النار، ودخوله الجنة.

والعجب من الإنسان كيف يخاطر بهذه النفس المملوكة لله تعالى وهو يعلم أنه سيزول عن قريب، فهو يشاهد أقرانه وأصحابه وآباءه وإخوانه، وكل الناس، يذهبون ولا يرجعون، ويدفنون ولا يخرجون، وينامون طويلاًُ ولا يستيقظون!!

إن أكبر مشكلة تواجه الناس في كل الأزمان وفي زمننا هذا بالخصوص: الغفلة عن حقيقة الدنيا وحقيقة الإنسان فيها، فهو مخلوق ضعيف راجع يوماً ما إلى خالق قوي كبير -سبحانه وتعالى-. فهل علم الإنسان هذه الحقيقة الكبيرة التي غابت عن عقول كثير من الناس في هذه المعمورة؟!

والنهاية من الدنيا يعرفها كل أحد حتى الحيوان، لكن هناك مغريات وشواغل وشياطين تصد العبد عن العمل بأسباب فلاحه وفوزه..

إخواني: إنه ليس بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، فبادر يا أخي إلى تقوى الله والعمل الصالح من قبل أن تحزن طويلاً، وتبكي دماً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، مما نحن فيه من الغفلة عن الآخرة والتعلق بالدنيا الفانية..

روي في بعض الآثار: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قام خطيباً فقال: (ليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات، فما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار). والحديث فيه ضعف1.

ولكن يستأنس بصحة معانيه، ولأنه قد جاء في أحاديث أخرى ما يؤكد هذه المعاني العظيمة.

إخواني وأخواتي: علينا جميعاً أن نوقن أنه لا دار بعد الموت إلا الجنة أو النار، وأنه ليس ثمة دار ثالثة، وأن للجنة طريقها وللنار طريقها، عرف ذلك من عرف، وضل عنه من ضل، وإن ربكم تعالى قد بين ذلك في كتابه العظيم أتم بيان، ووضحه أوضح وضوح، وإنه لم يبق للناس على الله حجة بعد الرسل، إلا القليل ممن لم تبلغهم حجة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها..

إنك لتعجب كل العجب عندما يسمع المسلم آيات القرآن الكريم تصدح ليل نهار في كل مكان، تأمره بالخير وتكفه عن الشر، وتحثه على الصالحات وترك المنكرات، ومع هذا تجده وتجدها غافلين عن الله مضيعين للصلاة مانعين للزكاة قساة قلوب، لا تلين قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، إذا سمع القرآن يتلى عليه تضايق وكأن به مساً من الشيطان، وإذا سمع ألحان الغناء والخنا والطبل والمزمار تمايل طرباً وفرحاً كأنه مخمور سكران!!

فيا عجباه ممن باع آخرته بثمن من الدنيا قليل، وتنكب الصراط المستقيم فضل عن سواء السبيل!.

جلس زياد مولى ابن عياش إلى بعض إخوانه فقال له:

يا عبدالله! فقال له: قل ما تشاء، قال: ما هي إلا الجنة أو النار؟! قلت: نعم، قال: وما بينهما منزل ينزله العباد؟! قلت: لا والله، فقال: والله إن نفسي لنفس أضن2 بها على النار، والصبر اليوم عن معاصي الله خير من الصبر على الأغلال.3

إن صبر ساعة لتجاوز المعصية والفرار منها هو نجاح الحياة كلها ودخول الجنة الغالية، وإن تذوق المعصية ساعة قد يكون فيه خسران الحياة، إن لم يتداركنا الله تعالى برحمته وعفوه.

"اتَّقى عبدٌ ربَّه نصح نفسه، وغلب شهوته، وقدم توبته، فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكَّل به، يمنِّيه التوبة ليسوفها، ويزين له المعصية ليركبها، حتى تهجم عليه منيته أغفل ما يكون عنها، وأنسى ما يكون لها، وإن ما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت أن ينزل به، فيا لها من حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة، أو أن تؤدي به أيامه إلى شقوة..! جعلنا الله وإياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصر به عن الطاعة معصية، ولا تحل به بعد الموت حسرة، إنه سميع الدعاء فعال لما يشاء"4.

اللهم إنا نسألك عيشة هنيَّة، وميتة سوية، ومرداً غير مخزٍ ولا فاضح، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.


1 أخرجه القضاعي في مسند الشهاب، وذكر نحوه الغزالي في إحياء علوم الدين، وقال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: "أخرجه البيهقي في الشعب من حديث الحسن عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه انقطاع".

2 أي أبخل بها عن النار.

3 روضة المحبين، لابن القيم (1/395).

4 ما بين الحاصرتين من كتاب: العاقبة في ذكر الموت، لعبد الحق الإشبيلي (1/86).