لا هجرة بعد الفتح

 

 

لا هجرة بعد الفتح

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله في الأولين والآخرين إلى يوم الدين، أما بعد:

فقد يلتبس على البعض فهم حديث النبي   الذي رواه ابن عباس – رضي الله عنه – وفيه: ((لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا))1، لاسيما لمن لم يكن له اطلاع على أقوال أهل العلم في شرح الحديث، وتفنيد أقوال الفقهاء للمسألة؛ مما يجعله يبني على هذا الفهم أحكاماً، ويفرع منه مسائل وفروعاً مجانباً لفهم المحققين من أهل العلم والدراية، والاستنباط والرواية، فتراه يأخذ بظاهر الحديث، وينفي وجود هجرة بعد النص المذكور، وبهذه المناسبة لابد لنا من ذكر أقوال أهل العلم في شرح الحديث، وبحث المسألة من جميع جوانبها، والله المستعان وعليه التكلان.

أقوال شراح الحديث:

قال ابن حجر – رحمه الله -: “وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر، وقدر على الخروج منها، وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده مرفوعاً لا يقبل الله من مشرك عملاً بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين، ولأبي داوود من حديث سمرة مرفوعاً: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، وهذا محمول على من لم يأمن على دينه، قال النووي: “يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة، وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه”، وقال ابن العربي: “الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضاً في عهد النبي  ، واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، والتي انقطعت أصلاً هي القصد إلى النبي  حيث كان”2.

الهجرة ستة أنواع:

وقسمها بعض أهل العلم إلى ثمانية أقسام ومنهم السيوطي في رسالة لطيفة له، وابن دقيق – رحمه الله – في شرحه للعمدة إلى خمسة أقسام، مع أنه أدخل فيها وفادة القبائل إلى النبي   وهي ليست منها، وهي في الحقيقة ترجع إلى ستة أقسام:

1- الهجرة من بلاد الخوف إلى بلاد الأمن، ومنه هجرة مسلمي مكة إلى الحبشة مع أنهما داران للكفر، وهو بين حال أن يكون من بلاد كفر إلى بلاد كفر، لكن هل تجوز الهجرة من بلاد الأمن إذا كانت بلاد إسلام إلى بلاد الكفر إذا كانت دار أمن؛ الظاهر جوازه في حال الخوف على الدين والنفس، وخاصة إذا كانت بلاد عدل بشرط عدم الخوف على الدين، والقدرة على إظهار الشرائع، وقد روي أن الزهري كان قد عزم على الهروب إلى بلاد الروم في حال تولى حكم بنى أمية سليمان بن عبد الملك؛ لأنه قد توعده القتل.

2- الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وتشمل قسمين:

* الهجرة الخاصة: وهي من بلاد مكة إلى المدينة قبل الفتح، وهي المقصودة بقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((لا هجرة بعد الفتح)).

* الهجرة العامة: من بلاد الشرك إلى الإسلام، ولا تتوقف إلى يوم القيامة.

3- هجر المعاصي والسوء: وقد تكلم عليها ابن القيم – رحمه الله تعالى – بكلام طويل في غير واحد من كتبه، وورد في الصحيح قول رسول الهدى: ((والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه))3، وفي المسند من حديث عمرو بن عنبسة – رضي الله عنه – أي الإيمان أفضل قال: ((الهجرة)) قال: فما الهجرة؟ قال: (( أن تهجر السوء))4.

4- الهجرة من مكان ظهرت فيه الذنوب، ولم يظهر فيه إنكار لها، فكل مكان غلبت عليه السيئات، ولم يستطع الإنسان إنكارها، ولم يجد من يعينه على إنكارها؛ فإنه تجب عليه الهجرة عن ذلك المكان إذلم يجد من يساعده على إنكار المنكر، فإن وجد من يساعده لم تجب عليه الهجرة، فإنما الهجرة عندما يظهر الفساد والمنكر، ولا يجد الإنسان أعواناً كما قال التتائي – رحمه الله -: “إذا شاع في أرض فساد ومنكر، وليس بها ناهٍ مطاعٌ وآمرٌ؛ فهذا الحال حينئذ تجب على الإنسان الهجرة من تلك الأرض”.

5- هجرة الإنسان لصاحب المعصية في وقت عصيانه فإن الله – تعالى – يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}5، وقال سبحانه: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}6.

6- وهذه الهجرة هي الهجرة الجائزة، وهي في حق من ظلم، فإن من ظلمه ظالم من الذين يخالطهم من الناس يحق له أن يهجره ثلاث، كمن ظلمه أخٌ له، وكان ذلك الظلم مما لا يستطيع رفعه، فله الحق أن يهجره ثلاث كما روى أبو أيوب الأنصاري – رضي الله عنهما – أن النبي   قال: ((لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ السلام))7، وأما ما سوى ذلك من الهجرة فلا خير فيه.

فهذا بعض ما لزم التنبيه عليه حول حديث ((لا هجرة بعد الفتح))، والله ولي التوفيق، والحمد لله أولاً وآخراً.


 


1 رواه البخاري برقم (2783).

2 فتح الباري (ج6ص38).

3 رواه البخاري برقم (10).

4 رواه أحمد برقم (16579)، وقال الألباني في تخريجه لكتاب الإيمان لابن تيمية: صحيح بشواهده (ج1ص 5).

5 سورة الأنعام (68).

6 سورة النساء (140).

7 رواه البخاري برقم (6075).