العرش

العـــرش

 

الحمد لله ذي العرش المجيد، والبأس الشديد، الفعال لما يريد، والصلاة والسلام على النبي الرشيد، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بالإحسان والقول السديد.. أما بعد:

فإن العرش المجيد لا يقدر قدره ولا يعلم عظمته إلا الله تعالى، وقد بُين لنا شيء من ذلك في النصوص الشرعية ليكون في النفوس تعظيم لله، وتقدير لجنابه، وزيادة في الإيمان به، ورغبة فيما عنده، فإنه القوي الكبير العزيز الغني، وغيره الفقراء إليه المحتاجون إلى رحمته وفضله في كل لحظة.. وقد بين الله لنا ورسوله شيئاً عن عظمة العرش وما خفي كان أعظم. قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ*فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (15-16) سورة البروج، وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} (15) غافر، وبين الله تعالى أنه استوى على العرش استواء يليق بجلاله وعظمته لا يجوز لأحد أن يسأل عن كيفية الاستواء لأن هذا تدخُّل في علم الغيب، ولا يجوز مشابهة الله بشيء من خلقه، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..} (54) سورة الأعراف، وورد الاستواء بهذه اللفظة (ثم استوى على العرش) في آيات كثيرة، وهو استواء يليق بجلاله وعظمته لا يجوز تحريفه ولا تأويله، بل نكل علمه ومعرفته إلى الله، لكننا نؤمن بظاهر الآية كما هي من غير تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تأويل، وقد حرف أهل البدع هذه اللفظة (استوى) كما حرف اليهود قول الله (حطة) فقالوا: (حبة) وأهل البدع المخالفون للسنة قالوا في قوله تعالى: (استوى) استولى!! فكأنه -تعالى وتقدس عن قولهم- نازعه أحد من المخلوقين على العرش حتى استولى عليه هو أخيراً وقهر عدوه باستيلائه على العرش!..، وهذا لا يقوله مؤمن.

وصف عرشه سبحانه بأنه كريم وعظيم، فقال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (116) سورة المؤمنون، وقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (26) سورة النمل، وللعرش حملة من الملائكة يحملونه ويسبحون الله في كل حين ويدعون للمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة والرحمة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (7) سورة غافر، ثم بين سبحانه عدد الذين يحملون العرش فقال: {..وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (17) سورة الحاقة، والملائكة الكرام تحف العرش من حوله وتسبح الله لا تمل ولا تكل من ذلك، كما قال تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ..} (75) سورة الزمر.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب بالحديث الصحيح المشهور المروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) متفق عليه.

وروى الإمام أحمد وغيره في عظم العرش وحملته حديثاً عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: (بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض. ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله فوق ذلك، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء)1.

والعرش أعلى المخلوقات، وتحته جنة الفردوس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حث الناس على سؤال الله جنة الفردوس التي فوقها عرش الرحمن سبحانه، كما في البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةَ).

يروى "وفوقَه" بالنصب على الظرفية، وبالرفع على الابتداء، أي: وسقفه.

قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية: "والعرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}، وليس هو فلكاً، ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو: سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات. فمن شعر أمية بن أبي الصلت:

 

مجِّدوا الله فهو للمجد أهل … ربنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء العالي الذي بهر النا … س وسوى فوق السماء سريرا

شرجعاً لا يناله بصر العـ … ين ترى حوله الملائك صورا

الصور هنا: جمع "أصور"، وهو: المائل العنق لنظره إلى العلو. والشرجع: هو العالي المنيف. والسرير: هو العرش في اللغة. ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، الذي عرَّض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته:

شهدت بأن وعد الله حق … وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طافٍ … وفوق العرش رب العالمينا

وتحملـه ملائكـة شداد … ملائكـة الإله مسومينا

ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة. وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)2. ورواه ابن أبي حاتم ولفظه: (تخفق الطير سبعمائة عام).

وأما من حرف كلام الله، وجعل العرش عبارة عن الملك، كيف يصنع بقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}؟ وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}. أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟ وكان ملكه على الماء؟ ويكون موسى عليه السلام آخذا من قوائم الملك؟! هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟!"3

فهذا كلام عن عظمة عرش الله تعالى الذي هو أكبر المخلوقات وأعظمها وأعلاها، ولهذا أكثر الله من ذكره في القرآن لعظمته ولعظمة من خلقه سبحانه وتعالى، ويكفي المؤمن أن يؤمن بظواهر الآيات كما جاءت وكما أثبتها السلف، ولا يترك للعقل الخوض في ذلك فإنه الضلال البعيد، ولقد ضل أقوام حكموا عقولهم في الجوانب الغيبية فأولوا وحرفوا بعدما تصوروا التشبيه بالخلق. والمؤمن يؤمن بما جاء عن الله ورسوله بفهم السلف الصالح -رضي الله عنهم-، ويعلم أن العبد ضعيف وهو جرم صغير في هذا الكون الفسيح فما ظهر له من العلم شيء يسير مما خفي عليه، كما قال تعالى: {..وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85) سورة الإسراء.

ربنا ألهمنا رشدنا وقنا شرور أنفسنا، وجنبا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وزدنا إيماناً وهدى وثبتنا على ما يرضيك، وصلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.


1 قال أحمد شاكر في تحقيق العقيدة الطحاوية (2/ 171): "حديث الأوعال هذا، رواه الإمام أحمد في المسند، بإسنادين ضعيفين : 1770 ، 1771 . ولكن رواه أبو داود والترمذي والحاكم في المستدرك، بأسانيد صحاح، كما بينا ذلك في شرح المسند". والحديث ضعفه الألباني في مواضع عديدة من كتبه.

2 رواه أبو داود وغيره وهو حديث صحيح، انظر السلسلة الصحيحة للألباني: (151).

3 شرح العقيدة الطحاوية (2/ 172-173).