لمن أحب أن يبسط له في رزقه

لمن أحب أن يبسط له في رزقه

 

الحمد لله الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا، وأوجب صلة الأنساب وأعظم في ذلك أجرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أعدها ليوم القيامة ذخرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أعظم الناس قدرًا وأرفعهم ذكرًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بالحق وكانوا به أحرى، وعلى التابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا. أما بعد:

فإن من الهموم التي تسيطر على كثير من الناس مسألة الرزق والبحث عن لقمة العيش، ترى بعض الناس قد تغرب عن أهله ووطنه، وآخرين قد ظهر على وجوههم التعب والإجهاد من آثار السعي في جمع المال.

وقد جعل لله لذلك مخرجا ولكن الناس لا يعلمون، إذ أن من أسباب بسط الرزق صلة الرحم.

فاتقوا الله -عباد الله-، وصلوا ما أمر الله به أن يوصل من حقوقه وحقوق عباده. والأرحام والأنساب هم الأقارب وليسوا -كما يفهم بعض الناس- أقارب الزوج أو الزوجة، هم الأصهار، فأقارب زوج المرأة أصهار لها وليسوا أنسابًا لها ولا أرحامًا، وأقارب زوجة المرء أصهار له وليسوا أرحامًا له ولا أنسابًا، إنما الأرحام والأنساب هم أقارب الإنسان نفسه كأمه وأبيه وابنه وابنته وكل من كان من بينه وبينه صلة من قبل أبيه أو من قبل أمه أو من قبل ابنه أو من قبل ابنته.1

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)2.

قال ابن سعدي رحمه الله: هذا الحديث فيه الحث على صلة الرحم، وبيان أنها كما أنها موجبة لرضى الله وثوابه في الآخرة، فإنها موجبة للثواب العاجل، بحصول أحب الأمور للعبد، وأنها سبب لبسط الرزق وتوسيعه، وسبب لطول العمر. وذلك حق على حقيقته ; فإنه تعالى هو الخالق للأسباب ومسبباتها.

وقد جعل الله لكل مطلوب سبباً وطريقا ينال به، وهذا جار على الأصل الكبير، وأنه من حكمته وحمده جعل الجزاء من جنس العمل، فكما وصل رحمه بالبر والإحسان المتنوع، وأدخل على قلوبهم السرور، وصل الله عمره، ووصل رزقه، وفتح له من أبواب الرزق وبركاته، ما لا يحصل له بدون هذا السبب الجليل.

وكما أن الصحة وطيب الهواء وطيب الغذاء، واستعمال الأمور المقوية للأبدان والقلوب، من أسباب طول العمر، فكذلك صلة الرحم جعلها الله سبباً ربانياً.3

فإن الأسباب التي تحصل بها المحبوبات الدنيوية قسمان: أمور محسوسة، تدخل في إدراك الحواس، ومدارك العقول. وأمور ربانية إلهية قدرها من هو على كل شيء قدير، ومن جميع الأسباب وأمور العالم منقادة لمشيئته، ومن تكفل بالكفاية للمتوكلين، ووعد بالرزق والخروج من المضايق للمتقين. قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2-3) سورة الطلاق.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نقصت صدقة من مال)4 بل تزيده، فكيف بالصدقة والهدية على أقاربه وأرحامه؟

وفي هذا الحديث دليل: على أن قصد العامل ما يترتب على عمله من ثواب الدنيا لا يضره إذا كان القصد من العمل وجه الله والدار الآخرة، فإن الله بحكمته ورحمته رتب الثواب العاجل والآجل، ووعد بذلك العاملين ؛ لأن الأمل واستثمار ذلك ينشط العاملين، ويبعث هممهم على الخير، كما أن الوعيد على الجرائم، وذكر عقوباتها مما يخوف الله به عباده ويبعثهم على ترك الذنوب والجرائم.5

قال ابن حجر رحمه الله: قال العلماء: معنى البسط في الرزق البركة فيه، وفي العمر حصول القوة في الجسد؛ لأن صلة أقاربه صدقة والصدقة تربي المال وتزيد فيه فينمو بها ويزكو؛ لأن رزق الإنسان يكتب وهو في بطن أمة فلذلك احتيج إلى هذا التأويل، أو المعنى أنه يكتب مقيداً بشرط كأن يقال: إن وصل رحمه فله كذا، وإلا فكذا.6

وجاء في الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر)7.

ومعنى مثراة في المال: أي سبب لكثرة المال.

الإخوة المؤمنون: ما سبق في الأحاديث السابقة وكلام العلماء في معناها يدل دلالة صريحة على أن من أعظم أسباب بسط الرزق هو صلة الأرحام.

وقد وصَّانا الله تعالى بحق الأرحام كما في قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء.

والرحم: اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره، كما سبق.

لقد حث الله سبحانه وتعالى المؤمنين على صلة الأرحام ورغبهم فيها، وبالنظر إلى الآية الآنفة الذكر وهي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} نجد أن الله سبحانه وتعالى قد قرن فيها بين تقواه سبحانه وبين صلة الأرحام.

قال الإمام القرطبي رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "أي اتقوا الله أن تعصوه واتقوا الأرحام أن تقطعوها".8

والجمع بين تقوى الله والحث على صلة الرحم والتحذير من قطعها دليل على تأكيد الإسلام على صلة الأرحام، وإلا لما جعله الله قرينًا للتقوى فلما جمع معه تأكد الحث عليه والعناية به.

وفي موضع آخر من القرآن جمع الله بين الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم فقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (22) سورة محمد، ولا شك أن لهذا الجمع مغزى ألا وهو تبكيت قطيعة الرحم والتحذير منها فمجرد الجمع بين القطيعة والإفساد في الأرض تحذير ووعيد، ثم إنه سبحانه قد رتب في هذه الآية اللعن على من هذه حاله وأخبر أنه سبحانه قد أصم أذني هذا الشخص عن سماع الحق وأعمى بصره عن رؤية الطريق المستقيم طريق أوليائه الصالحين، فقال سبحانه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (23) سورة محمد، ثم إنه سبحانه وتعالى قد توعد الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام وغيرها فقال تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (27) سورة البقرة وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (25) سورة الرعد، ومن هذه الآيات نستلهم وجوب صلة الأرحام وتحريم قطيعة الرحم؛ إذ إن الحق سبحانه قد توعد من يقطع ما أمره الله بوصله من رحم وغيره، قد توعده باللعن وهو الطرد من رحمة الله، كما توعده بأن له سوء الدار والمراد بذلك جهنم حمانا الله وإياكم منها.

وهذا يدل على فضل صلة الرحم وسمو مكانته حيث جمعه الرسول صلى الله عليه وسلم مع إخلاص العبادة لله والصلاة والزكاة فوق ما أخبر من أنه يدخل الجنة ويباعد فاعله عن النار.

حقيقة صلة الرحم:

وصلة الرحم لا تقتصر على وصل من وصلك؛ لأن هذا من باب المكافأة ورد الجميل، ولكن الواصل الحقيقي هو من يصل أرحامه الذين يقطعونه، ومصداق هذا ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها).9 وبذلك يزيد أجر المرء الواصل لأقاربه وذوي رحمه المحسن إليهم الصابر على ذلك إذا كانوا يسيئون إليه رغم إحسانه ويقطعونه رغم صلته، أما أقاربه القاطعون المسيئون لمن أحسن إليهم فعليهم وزر عظيم وذنب كبير. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عليهم ويجهلون عليّ، فقال: (لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك).10

ومعنى تسفهم المل: أي كأنما تطعمهم الرماد الحار وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم بما يُلحق الرماد الحار من الألم.

ومن حرص الإسلام على صلة الرحم ومنعه القطيعة أنه لم يستثن أحدًا من الأقارب فيرخص بقطيعته حتى القريب الكافر أمر الإسلام بصلته والإحسان إليه، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت علي أمي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: (نعم صلي أمك)11 متفق عليه. قولها: راغبة، أي طامعة عندي تسألني شيئًا.

التحذير من قطع الرحم:

وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من قطيعة الرحم وبين أن وصلها سبب في وصل الإنسان لكل خير، وقطعها سبب لقطعه عنه، وأمان مورد الرزق من أعظم ما يكسبه العبد ويهم وجوده من أمور الدنيا، فقد امتن الله على أهل مكة بنعمة الأمان في الرزق كما قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ} (4) سورة قريش.

وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرؤا إن شئتم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ*أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ*أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (22-24) سورة محمد.12

"ولعلك أخي المسلم: تستغرب إذا وجدت بعض المسلمين قد فتح الله لهم أبواب تلو أبواب من الرزق وهم قليلو النشاط وضعيفو الخبرة قياساً بغيرهم من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، ولكنك إذا فتشت عن حاله وجدته ممن يصل رحمه.

بل لا تستغرب -أخي الحبيب- إذا أخبرتك بأن بعض العصاة والفساق، بل وبعض الفجرة قد تنمو أموالهم بسبب صلة الرحم، واسمع لما رواه ابن حبان في صحيحه بسند جيد عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة له من قطعية الرحم، والخيانة، والكذب، وإن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم إذا تواصلوا).13 إن هذا الحديث يفسر لنا ظاهرة ربما كانت موضع استغراب عند كثيرين.

نعم أيها الأحبة: (إن أهل البيت ليكونوا فجره، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا.)"14

وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد توعد من قطع رحمه بالحرمان من الجنة كما جاء من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة قاطع)15 قال سفيان في روايته: يعني "رحم". متفق عليه، فإذا منعت منه رحمة الله في الآخر فكيف لا تمتنع منه رحمة الله في إمداده بالرزق في الدنيا.

فحري بنا أن نحرص على هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن نعض على سنته بالنواجذ ونحافظ على صلة الأرحام ونحث إخواننا المسلمين على ذلك ونحذر من القطيعة ففيها ما ذكرنا من الفقر في الدنيا والوعيد الشديد في الدنيا والأخرى.16

 نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة، كما نسأله أن يوسع علينا في الرزق مما يعيننا على طاعته، والحمد لله رب العالمين.


1 الضياء اللامع من الخطب الجوامع لابن عثيمين (3/152).

2 رواه البخاري (5640) ومسلم (2557).

3 بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار: عبد الرحمن بن ناصر السعدي: ط4: وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد – المملكة العربية السعودية: 1423هـ– (1/271).

4 رواه مسلم (2588).

5 بهجة قلوب الأبرار: (1/272).

6 فتح الباري شرح صحيح البخاري – لابن حجر العسقلاني (4/302).

7 رواه الترمذي (1979) صححه الألباني، انظر حديث رقم: 2965 في صحيح الجامع.

8 الجامع لأحكام القرآن: للقرطبي (5/5).

9 رواه البخاري (5645).

10 رواه مسلم (2558).

11 رواه البخاري (2477) ومسلم (1003).

12 رواه مسلم (2554).

13 رواه ابن حبان في صحيحه برقم (455) وصححه الألباني، وانظر حديث رقم: 5704 في صحيح الجامع.

14 من خطبة للشيخ ناصر الأحمد بعنوان "أسباب الرزق".

15 رواه البخاري (5638) ومسلم (2556).

16 بعض هذا الدرس مستفاد من مقال:"حق الأرحام" من المصدر: http://www.islammemo.cc بتصرف.