تحفيز العقول

 

 

تحفيز العقول

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدوآله وصحبه وسلم،

 أما بعد:

لقدخلق الله تعالى هذا الإنسان وشرفه وكرمه على سائر المخلوقات، وميزه بالعقل الذي يستطيع به أن يفكر وأن يستدل على وجود الله تعالى فيحقق العبودية الكاملة لله تعالى، والعقل وحده لا يكفي لتوصل الإنسان إلى ذلك فلا بد له من إرشاد إلى الطريق القويم. ولقد غلت البشرية في نظرتها للعقل، ولا سيما بعد أن فتح الله للعقل مجالات رحبة في علوم الفضاء والذرة، واكتشفوا كثيراً من أسرار الكون التي كان يجهلها وظنت أن بإمكانها أن تستغني عما جاء به الأنبياء، فطرحوا الشرائع السماوية جانباً، ونسوا لأنفسهم أنظمة، وشرعوا لحياتهم قوانين، وأحلوا ما اشتهته أنفسهم، وحرموا ما اشمأزت منه نفوسهم، استناداً على ما تمليه عقولهم القاصرة وخيالاتهم الممرورة، فحاربوا الدين الإسلامي بحجة تحرير العقل من قيوده وإفساح المجال له ليقوم بواجبه، من وضع الأنظمة وسن القوانين.

والعقل في التصور الإسلامي له وضع يليق به، ولا يرتفع ليكون إلهاً، ولا يمتهن ليكون صاحبه كسائر الحيوانات، إذ من المسلم أن العقل له قدرة في معرفة، ما يصلحه وما يضره، وقدرة في معرفة الحسن من القبيح معرفة فطرية، ولكن هذه المعرفة وهذا الإدراك من العقل أمامه إشارات تجعله لا يقدر على تسيير الحياة وحده دون وحي ومن هذه:

1. معرفة الغيب الذي أخفاه الله عن خلقه على حقيقته، كمعرفة صفات الله، والملائكة والجن والجنة والنار، ونحو ذلك من الأمور التي لا تقع تحت الحس.

2. إدراكات العقل مجملة لا مفصلة، فقد يدرك أن هذا الفعل حسن، مثل العدل، ويدرك أن هذا الفعل قبيح مثل الجور، وقد يعجز عن تحديد عمل من الأعمال هل هو عدل أو جور.

3. أن العقول قد لا تقدر على معرفة الحسن من القبيح، وخاصة إذا تضمن الفعل مفسدة ومصلحة أو كان ظاهره الفساد وباطنه المصلحة. قال ابن تيمية رحمه  الله: الأنبياء جاءوا بما تعجز العقول عن معرفته ولم يجيئوا بما تعلم العقول بطلانه، فهم يخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات العقول.      الفتاوى 2/312.

4. اختلاف العقول الإنسانية ومستوى إدراكها، فقد يستحسن عقل ما لا يستحسنه عقل آخر، ويستقبح عقل ما لا يستقبحه عقل آخر، مما يوقعها في متناقض الآراء، ويحيل هذه الآراء فرضيات لا حقائق مقطوعاً بها.

5. العوامل التي تؤثر في إدراك العقل البشري تبذر بذور الشك في صحة ما تنتهي إليه العقول.

ولنا بعد هذا أن نتساءل عن عمل العقل، وعما يمكن أن يقدمه للبشر؟ إن عمل العقل هو التفكر في مخلوقات الله. واستخراج كنوز الأرض وخيراتها، بما يتواصل إليه من علوم الطبيعة، وأما الأمور التي لا تقع تحته فليس له أن يبحثها، كالأمور التي وراء الطبيعة، كما أن ليس له أن يستعبد العقول الإنسانية الأخرى، وعليه أن يذعن للوحي ويخضع له، ويجتهد في فهمه وتدبره واستنباط ما لم يصرح الوحي به، ويخفى على بعض العقول مع التواضع لله، والتسليم لوحيه، وعدم إنكار ما لم يستوعبه العقل أو تكذيبه.

ومع هذا التواضع لله والتسليم لوحيه يمكن للعقل أن يؤدي دوره من تدبر وتأمل وهذا يقود إلى الإبداع، والتجديد وتطوير الطاقات، قال ابن القيم: التفكر والتذكر بذار العلم،وسقيه مطارحته, ومذاكرته تلقيحه.1

إن التفكر الصحيح وسيلة من وسائل الانعتاق من آسار العادة والاتكال على تفكير الآخرين،وكسر لطوق الرتابة والاجترار الذي يتربى عليه الناس كابراً عن كابر، لهذا تضمنت دعوات الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام. دعوة للتفكر والنظر، والتخلص من إرث الآباء والأجداد قال الله تعالى: ((قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة)) سبأ: 46.

وهكذا أسلوب القرآن في كثير من الآيات (أفلا ينظرون)(لقوم يعقلون) (وما يعقلها إلا العالمون) (لآيات لأولي الألباب).

فنرى خطاب الله في القرآن وأمره وتوجيهه لاستخدام العقل من التفكير الصحيح الذي يقود إلى توحيده وعبادته.

والحمد لله رب العالمين،،


1– مفتاح دار السعادة (1/183).