عمار وعمار

عمار وعمار

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}2، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}3 أما بعد:

لقد أدرك الرسول – صلى الله عليه وسلم – القائد، والمعلم الحاذق أن أصحابه ومن دخل في دينه يحتاجون إلى تربية وتعليم، وتوجيه وإرشاد، وذلك يتطلب مكاناً يجتمعون فيه، ويتدارسون شرائع الإسلام وأحكامه في رحابه، فكان أول عمل بدأ به – عليه الصلاة والسلام – أن شرع هو وصحابته الكرام في بناء المسجد كما جاء ذلك عن أنسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه – قَالَ: (( قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ أَعْلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ "بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ" … وَأَنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلأ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فَقَالَ : "يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا" قَالُوا: لا وَاللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا من اللَّهِ، فَقَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خَرِبٌ، وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ وَالنَّبِيُّ – صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إِلا خَيْرُ الآخرة، فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ والمهاجرة4)) منذ تلك اللحظة صار المسجد منارة تشع في أرجاء دولة الإسلام الناشئة، وقبساً يشع في سمائها الوضّاءة: حيث أصبح مكان أداء العبادة من الصلوات والاعتكاف، كما أصبح ملتقىً للمسلمين، ومنتدىً لحواراتهم، وهو المكان الذي يبث من خلاله الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – أحاديثه النورانية فيصلح المعوج، ويهدي الضال، ويرشد الحائر، وينفس عن المكروب، كما أنه كان أيضاً بداية الانطلاقة لجيوش الإسلام التي فتحت مشارق الأرض ومغاربها في عهده – صلى الله عليه وسلم – وعهد من جاء بعده من خلفاء المسلمين.

إن المساجد التي هي بيوت الله هي خير بقاع الأرض، وأحبها إلى المولى – جل وعلا – فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قَالَ أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا))5، لأجل ذلك فإنه يحسن بنا أن نقف وقفات على عجل مع عمارة المساجد.

وعمارة المساجد نوعان:

النوع الأول عمارة حسية: ويعنى بها بناء مكان يأوي إليه الناس ليصلوا فيه، ويتعبدوا ربهم تحت جدرانه، وقد ثبت جملة من النصوص الشرعية تحث على بناء المساجد، والعناية بشؤونها، وحفظها من الأوساخ والأدران، ومنع السفهاء والغوغاء من الإضرار بها. من ذلك ما جاء في قول الله – تعالى -:{إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشى إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المفلحين}6، وحذر من إفسادها فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}7.

وعند أبي داود عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: (( أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب))8، وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال: قال – صلى الله عليه وسلم -: ((من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة))9.

النوع الثاني عمارة المساجد المعنوية: والتي هي الأصل الأصيل في العمارة، والمراد بها أداء الصلاة فيها، والاعتكافُ، وقراءة القرآن وذكر الله، واتخاذها منطلقاً للتوجيه والتربية ونحو ذلك.

أما مجرد عمارة المسجد وزخرفتِه، والتباهي بحسن بنائه وتصميمه؛ مع خلوه من العباد والمصلين؛ فليس مراداً في الشرع كما هو حاصل في كثير من بلاد الإسلام اليوم، ولله درّ القائل:

منائركم علت في كل حيٍّ          ومسجدكم من العبّاد خالي

وجلجلة الأذان بكل فجٍّ             ولكن أين صوتٌ من بلالِ؟

إن العمارة الحقيقية للمسجد هي إحياء ذكر الله فيه، وإقام الصلاة يقول – تعالى –: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}10، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط))11.

وفي البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: (( صَلَاةُ الْجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ وَتُصَلِّي يَعْنِي عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ))12.

فهذه هي العمارة المعنوية التي هي الأصل الأصيل، فإذا ما اجتمعت العمارة الحسية والعمارة المعنوية فذلك الخير كله.

نسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لكل خير، والحمد لله رب العالمين.


1 آل عمران (102).

2 النساء (1).

3 الأحزاب (70-71).

4 رواه البخاري حديث رقم (410).

5 صحيح مسلم (671)

6 التوبة (18).

7 سورة البقرة (114).

8 سنن أبى داود (1/173)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود  (1/ 92).

9 سنن ابن ماجه (1/244)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة  (1/124).

10 سورة النور (36).

11 صحيح مسلم (1/151).

12 صحيح البخاري (477).