من أحق بالإمامة والعمدة في ذلك

 

 

من أحق بالإمامة والعمدة في ذلك

حديث أبي مسعود (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:-

نتناول في هذه الأسطر حديثاً من أحاديث النبي   في مسألة من أحق بالإمامة، ونرى أقوال العلماء في ذلك والمسائل المستفادة منه.

قال الإمام مسلم وحدثنا أبوبكر بن أبي شيبة وأبو سعيد الأشج كلاهما عن أبي خالد قال اأبوبكر حدثنا أبو خالد الأحمد عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أوس بن ضمج عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله  : (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة فأقدمهم سلماً، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) قال الأشبح في روايته مكان سلماً: سناً.

هذا الحديث يبين من أحق بالإمامة وهذه المسألة من المسائل المختلف فيها بين المذاهب.

فذهب الحنفية إلى أن الأحق بالإمامة: الأعلم بأحكام الصلاة فقط صحة وفساداً بشرط اجتنابه للفواحش الظاهرة، وحفظه من القرآن وقدر فرض: أي ما تجوز به الصلاة.

ثم الأحسن تلاوة وتجويداً للقراءة، لقوله  : (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله.. الحديث) ثم الأورع أي الأكثر اتقاء للشبهات، ثم الأسن: أي أكبرهم سناً؛ لأنه أكثر خشوعاً ولا بد في تقديمه تكثير الجماعة، ثم الأحسن خلفاً (إلفة بالناس) ثم الأحسن وجهاً (أي أكثرهم تهجداً) ثم اختلفوا (معتبراً الأكثر. فإن كان بينهم سلطان، فالسلطان مقدم، ثم الأمير، ثم القاضي، ثم صاحب المنزل، ولو مستأجراً ويقدم القاضي على إمام المسجد. وعلى هذا يقدم السلطان أو القاضي، فإن لم يوجد أحدهما يقدم صاحب البيت، ومثله إمام المسجد الراتب، فهذا أولى بالإمامة من غير مطلقاً).1

ومذهب المالكية:- يندب تقديم سلطان أو نائبه ولو بمسجد له إمام راتب، ثم الإمام الراتب في المسجد ثم رب المنزل فيه، ويقدم المستأجر على المالك، ثم الأفقه (الأعلم بأحكام الصلاة) ثم الأعلم بالسنة أو الحديث حفظاً وروايته، ثم الأقرأ: أي الأدرى بطرق القرآن أو بالقراءة والأمكن من غيره في مخارج الحروف ثم الأعبد: أي الأكثر عبادة من صوم وصلاة وغيرهما، ثم الأقدم إسلاماً، ثم الأرقى نسباً كالقرشي، ومعلوم النسب يقدم على مجهوله، ثم الأحسن خلقاً، ثم الأحسن لباساً، فإن تساووا قدم الأورع والزاهد والحر وغيرهم، ويقدم الأعدل على مجهول الحال، والأب على الابن، والعم على ابن أخيه، فإن تساووا في كل شيء أقرع بينهم، إلا إذا رضوا بتقديم أحدهم.2

مذهب الشافعية:- أحق الناس بالإمامة: الوالي في محل ولايته، لقوله  : (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه).

ثم الإمام الراتب، ثم الساكن بحق إن كان أهلاً لها، ومالك المنفعة أولى بالإمامة من الإمعة والأصح تقديم المكتري، والمعير على المستعير فإن لم يكن أهلاً فله التقديم.

ثم يقدم الأفقه، فالأقرأ، فالأروع، فالأقدم هجرة، ثم الأسبق إسلاماً، فالأفضل نسباً فالأحسن سيرة، فالأنظف ثوباً، ثم نظيف البدن، ثم طيب الصنعة، ثم الأحسن صوتاً، فالأحسن صورة، أي وجهاً، فالمتزوج. فإن استووا في جميع ما ذكر وتنازعوا، أقرع بينهم، والعدل أولى من الفاسق (وإن كان أفقه أو أقرأ) والبالغ أولى من الصبي (وإن كان أفقه أقرأ) والحر أولى من العبد، والمقيم أولى من المسافر، وولد الحلال أولى من ولد الزنا، والأعمى ثم البصير؛ لأن الأعمى لا ينظر إلى ما يشغله فهو أخشع.

مذهب الحنابلة:-

الأولى بالإمامة الأجود قراءة الأفقه لحديث أبي سعيد الخدري: (إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم، وقدم النبي – صلى الله عليه وسلم – أبابكر لأنه كان حافظاً للقرآن وكان مع ذلك من أفقه الصحابة – رضي الله عنهم-. ومذهب أحمد وتقديم القارئ على الفقيه، لحديث أبي مسعود السابق (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) (وهذا خلاف مذاهب الأئمة الآخرين فإنه يقدم عندهم الأفقه؛ لأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه ضرورة، بخلاف ما عليه الناس اليوم؛ ولأن الحاجة إلى الفقه في الأمامة أمس من الحاجة إلى القراءة).

ثم الأجود قراءة الفقيه، ثم الأجود قراءة فقط، وإن لم يكن فقيهاً، إذا كان يعلم أحكام الصلاة وما يحتاجه فيها، ثم الأفقه والأعلم بأحكام الصلاة، ويقدم قارئ لا يعلم فقه صلاته على فقيه أمي لا يحسن الفاتحة؛ لأنها ركن في الصلاة بخلاف معرفة أحكامها، فإن استووا في القراءة والفقه، قدم أكبرهم سناً، لحديث مالك بن الحويرث: ((وليؤمكم أكبركم)) ثم الأشرف نسباً: وهو من كان قريشاً، قياساً على الإمامة الكبرى لقوله  : (الأئمة من قريش) رواه أحمد والنسائي. ثم الأقدم هجرة بسبقة إلى دار الإسلام مسلماً، ومثله الأسبق إسلاماً، لحديث أبي مسعود المتقدم ثم الأتقى والأورع، لقوله تعالى: ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم)) فإن استووا فيما تقدم أقرع بينهم، ويقدم السلطان مطلقاً على غيره كما يقدم في المسجد الإمام الراتب،وفي البيت صاحبه إن كان صالحاً للإمامة.3

قال النووي – رحمه الله – شارحاً هذا الحديث:- قوله  : ((وأحقهم بالإمامة)) أقرؤهم وفي حديث أبي مسعود (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فيه دليل لمن يقول بتقديم الأقرأ على الفقه، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وبعض أصحابنا، وقال مالك والشافعي وأصحابهما الأفقه مقدمعلى الأقرأ؛ لأن الذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط. وقد يعرض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصواب فيه إلا كامل الفقه. قالوا: ولهذا قدم النبي   أبابكر – رضي الله عنه – في الصلاة على الباقين مع أنه   نص على أن غيره أقرأ منه، وأجابوا عن الحديث بأن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه، لكن في قوله فإن كانوا في القراءة سواء فأعملهم بالسنة دليل على تقديم الأقرأ مطلقاً ولنا وجه اختاره جماعة من أصحابنا أن الأورع مقدم أكثر من غيره.


1– الدر المختار (1/520-522).  

2– الشرح الصغير (1/545—457).

3– المهذب (1/98-99)، مغني المحتاج (1/ 242-244).