لجمع بين قراءتي الجر والنصب في قوله تعالى وأرجلكم إلى الكعبين

الجمع بين قراءتي الجر والنصب في قول الله – تعالى -: (وأرجلَِكم)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن القرآن الكريم كان ولا يزال محوراً لكثير من الدراسات منذ اللحظة الأولى لنزوله، وقد تنوعت هذه الدراسات وتعددت، وبذل العلماء فيها جهوداً مضنية للإحاطة بالكثير من جوانبه، إلا أن هذه الجهود ما زالت قاصرة، شاهدة بذاتها على أن النص القرآني يجاوز كل طاقات النفس البشرية، وتقدمها العلمي الحديث.

ولعل أول ما أوقف الكتَّاب هو قضية نزول القرآن على الأحرف السبعة، وهو بحد ذاته دليل لإعجاز القرآن الكريم، حيث اختلاف القراءات للنص القرآني هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وكل قراءة متضمنة لدلالة القراءة الأخرى، بالرغم من أن القراءة الواحدة تعتبر جامعة مانعة،كاملة معجزة بذاتها، والحفظ لأحدها في الواقع كاف، وهذا الاختلاف في القراءات لا يؤثر على الأحكام أبداً، فالحرام حرام في كل القراءات، وكذلك الحلال حلال في كل القراءات، والواجب واجب في كل القراءات، إذاً التنوع والتغيير في القراءات إنما هو من باب تسليط الضوء في قراءة على جانب من الأمر بصورة واضحة، وترك الجانب الآخر في ظل النص يدركه الباحث إذا تعمق في دراسة النص كاملاً، وتأتي القراءة الأخرى فتسلط الضوء على جانب آخر من الأمر ذاته، وترك جانب في ظل دلالة النص يدركه الباحث إذا تعمق في دراسة النص.

ونحن بصدد آية من كتاب الله – عز وجل -، هذه الآية – مع اختلاف قراءتها – فقد بُنِيَ على الاختلاف في القراءة اختلاف في تأدية الواجب، وهذا الخلاف منه ما هو صحيح موافق لمراد الله – عز وجل -، ولما جاء عن رسول – صلى الله عليه وآله وسلم -.

هذه الآية هي آية الوضوء حيث يقول الله – عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}1،  ومن خلال آية الوضوء نستطيع أن نتعرف على كيفيته، ثم نرى ما هو حكم الأرجل بناءً على اختلاف القراءتين، ونأتي بالأدلة من الطريقين:

أولاً: الكيفية الصحيحة للوضوء:

وصف الخليفة الراشد عثمان بن عفان – رضي الله عنه – الكيفية الصحيحة للوضوء فقد جاء عن حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ – رضي الله عنه – دَعَا بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثاً، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))2، وفى رواية مسلم: أن عثمانَ توضأ بالمقاعد، فقال: ألا أُرِيكم وضوءَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ثم توضَّأ ثلاثاً ثلاثاً.

هذه هي الكيفية التي وردت عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – في الوضوء، و"المفترض من الوضوء هو مرة مرة، وما زاد على ذلك فهو لإصابة الفضل لا الفرض، وأن المرتين والثلاثة من ذلك على الإباحة، فمن شاء توضأ مرة، ومن شاء مرتين، ومن شاء ثلاثاً، وهذا قول أهل العلم جميعاً، لا نعلم بينهم في ذلك اختلافاً"3.

وبعد أن علمنا الكيفية الواردة عن الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – في الوضوء نرجع إلى الآية فنقول:

أولاً: هذه الآية تضمنت ذكر الوضوء، وفرائضه المنصوص عليها، وهي:

    أ‌-    غسل الوجوه في قوله – تعالى -: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ}، وحدُّ الوجه "من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن، وإلى شحمتي الأذنين، وهذا تحديد صحيح؛ لأنه تحديد الشيء بما ينبئ عنه اللفظ لغة؛ لأن الوجه اسم لما يواجه الإنسان، أو ما يواجه إليه في العادة4"، والمضمضة والاستنشاق داخلة في الوجه لمواظبة النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – على فعلها.

   ب‌-   غسل الأيدي في قوله – تعالى -: {وَأَيْدِيَكُمْ}، وحدد الغسل الواجب للأيدي {إِلَى الْمَرَافِقِ}، ومعنى {إلى} هنا الغاية، ويفهم منه غسل الأيدي من رؤوس الأصابع إلى المرافق، والمرافق داخلة في الغسل.

   ت‌-   مسح الرأس في قوله – تعالى -: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ}، والمعنى امسحوا جميع الرأس، و"هذه الفريضة الثالثة من الفرائض المجمع عليها وهي مسح الرأس، والمشهور أن مسح جميعه واجب، فإن ترك بعضه لم يجزئه5"، وصفة المسح: "أن يبدأ بمقدم رأسه الذي يلي الوجه فيذهب إلى القفا، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، وهو مبتدأ الشعر من حد الوجه6"، وحَدُّ الوجه عند الفقهاء: ما بين منابت شعر الرأس، ولا اعتبار بالصَّلع ولا بالغَمَم إلى منتهى اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، وفي النزعتين، والتحذيف؛ خلاف هل هما من الرأس أو الوجه، واختلفوا في هذه "الباء" هل هي للإلصاق – وهو الأظهر -، أو للتبعيض؟ – وفيه نظر -"7.

   ث‌-   غسل الأرجل في قوله – تعالى -: {وَأَرْجُلَكُمْ}، وحددها بقوله: {إِلَى الْكَعْبَينِ}، والكعبان هما حدَّا الوضوء، وهما العظمان البارزان عند ملتقى الساق بالقدم، "وقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قُرئ: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب عطفاً على {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ}، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة حدثنا أبو سلمة حدثنا وُهَيْب عن خالد عن عِكَرِمة عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قرأها: {وَأَرْجُلَكُمْ} يقول: رجعت إلى الغسل، وروي عن عبد الله بن مسعود، وعُرْوَة، وعطاء، وعكرمة، والحسن، ومجاهد، وإبراهيم، والضحاك، والسُّدِّي، ومُقاتل بن حيان، والزهري، وإبراهيم التيمي، نحو ذلك، وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل كما قاله السلف، ومن هاهنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب كما هو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة8".

فهذه هي فروض الوضوء التي شرعها الله – عز وجل -، وبيَّنها نبيه – صلى الله عليه وآله وسلم -، إلا أننا سنقف عند الفرض الأخير؛ للاختلاف الحاصل فيه في قوله – تعالى -: {وَأَرْجُلَكُمْ}، وبناءً على القراءتين المتواترتين والصحيحتين في الآية.

"قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص بنصب الأرجل، وهي قراءة الحسن البصري والأعمش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم في رواية شعبة بالجرّ، وقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين؛ لأنها معطوفة على الوجه، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، وقراءة الجرّ تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الرجلين؛ لأنها معطوفة على الرأس، وإليه ذهب ابن جرير الطبري، وهو مرويّ عن ابن عباس – رضي الله عنه -، قال ابن العربي: اتفقت الأمة على وجوب غسلهما، وما علمت من ردّ ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الجرّ قال القرطبي: قد روى عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، قال: وكان عكرمة يمسح رجليه، وقال: ليس في الرجلين غسل، إنما نزل فيهما المسح"9، وبسبب تنوع القراءتين في الآية اختلف العلماء والفقهاء في حكم الأرجل ما بين المسح والغسل، وكثر في ذلك خصامهم، ولذلك جاءت أقوالهم متغايرة، وآراؤهم متباينة، فمنهم من قال: الحكم في الأرجل المسح، ومنهم من قال: الحكم فيها الغسل.

واحتج القائلون بالغسل بما قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة، ومن فعله – صلى الله عليه وسلم – وقوله وهو غسل الرجلين فقط، فقد ثبت عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضي الله عنهما – قَالَ: تَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الصَّلَاةَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ ((وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً))10، فأفاد وجوب غسل الرجلين، وأنه لا يجزئ مسحهما، "وهذا الحديث تفسير لقوله: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}، والمراد منه غسل الأرجل لا مسحها، فعن مالك أنه سُئل عن قراءة من قرأ: تمت وأرجلِكم بالخفض، فقال: هو الغسل"11.

ولأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب ويخطىء ما أخطأ، فلو كان مجزئاً لما قال: ((ويل للأعقاب من النار))، وقد ثبت عنه – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه: ((هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به…الحديث))12، وهنا نأتي إلى مسألة وهي المسح على الخفين، فأما المسح على الخفين فهو ثابت بالأحاديث المتواترة، ولا يتسع المجال لذكره هنا.

واستدلوا بأن الأرجل معطوفة على الأيدي لا على الرؤوس بدليل قراءة النصب.

واحتج من ذهب إلى أن حق الأرجل المسح لا الغسل بقراءة الخفض {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأرْجُلِكُمْ} فظاهر هذه القراءة يقتضي أن تكون الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما وجب المسح للرؤوس وجب مسح الأرجل؛ لأنه عطف على أقرب مذكور، وإلى هذا ذهب الإمامية من الشيعة، ومن قال بمقالتهم، وقالوا: ليس في الرجلين إلا المسح، ولهذا ردُّوا قراءة نصب الأرجل إلى قراءة الخفض، فقالوا: إنها تقتضي المسح أيضاً؛ لأن العطف حينئذ على محل الرؤوس لقربه فيتشاركان في الحكم، ثم قالوا: ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار؛ لأنها بأسرها من باب الآحاد، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز.

ويترجح مما سبق أن الغسل هو الراجح، وجمهور الأمة من الصحابة والتابعين على القول بوجوب الغَسل، فقد أجمعوا على أن الفرض في الرجلين الغَسل على القراءتين، وأن المسح لا يجزئ، فضلاً عن أنه مخالف للكتاب والسنة، فهو لم يثبت عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -، وإنما ثبت المسح في الخفين، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم من السلف والخلف، وأما قراءة ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وعاصم في رواية شعبة بالجرّ فهي وإن كانت متواترة إلا أنها تحمل على الغسل، ولا يصح المسح على الأرجل، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


 1سورة المائدة (6).

 2البخاري (155)، ومسلم (331).

 3شرح ابن بطال (1/267).

 4بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/7).

 5مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل (2/140).

 6عون المعبود (1/137).

 7تفسير ابن كثير (3/47).

 8تفسير ابن كثير (3/51).

 9فتح القدير (2/277) بتصرف يسير.

 10البخاري (94)، ومسلم (355).

 11شرح ابن بطال (1/272).

 12السنن الكبرى للبيهقي (1/80)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/523).