حق الحياء

 

 

حق الحياء

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:

في رياض السنة النبوية نرمي رحالنا لنأخذ منها ما يصلح أحوالنا، وما تهتدي به قلوبنا، فإن هدي المصطفى   خير الهدي، ومن ذلك الهدي ما تكلم به الحبيب   في باب الأخلاق، وكيف لا يتكلم في الأخلاق؟ وهو الذي حصر بعثته في الاهتمام بالأخلاق فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله  : ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق))1.

ولعل أَجَلِّ الأخلاق خلقٌ عظيم أمر به النبي  ، وحث عليه أصحابه؛ إنه خلق “الحياء”، ولكنه هنا لم يرد الحياء من المخلوق؛ بل أراد الحياء من العظيم الخالق – سبحانه وتعالى -، فإن الحياء منه – سبحانه – ليس كأي حياء، بل له تعريفه الخاص، وله سبيله الخاص، فهو هنا – أي الحياء – يتعلق بمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يتعلق بالعليم الخبير، يتعلق بالذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

ويبين النبي   الحياء من الله – تعالى – فيقول كما في الحديث الحسن لغيره عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله  : ((استحيوا من الله حق الحياء)) قال: قلنا يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله. قال: ((ليس ذاك؛ ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء))2.

و”الحياء خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ونحوه، وأولى الحياء الحياء من الله – تعالى -، وهو أن لا يراك الله حيث نهاك، وذاك إنما يكون عن معرفة ومراقبة، وهو المراد بقوله ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك))”3.

إن الحياء من الله – تعالى – حفظ كل الجوارح من أن تخرج عن الدائرة المتاحة لها،فلا العين تنظر إلى الحرام، ولا الأذن تستمع الحرام، ولا اللسان يتفوه بالحرام، ولا يستسيغ لقمة محرمة، ولا يدنس نفسه في شهوة محرمة، ذاكراً في كل أحواله الموت،طالباً الآخرة، وتاركاً زينة الدنيا وراء ظهره.

وما يكون الحياء من الله – عز وجل – إلا إذا كان العبد يستشعر قرب ربه منه، ويعلم قدرته عليه، فيخاف منه، قال ابن رجب – رحمه الله -: “استحيى من الله على قدر قربه منك، وخف الله على قدر قدرته عليك، وقال بعض العارفين: إذا تكلمت فاذكر سمع الله لك، وإذا سكت فاذكر نظره إليك”، ثم يشير – رحمه الله تعالى – إلى أن القرآن الكريم فيه ما يدعو إلى الحياء من الله، إذ يبين اطلاع الله الدائم على عبيده، “وقد وقعت الإشارة في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع؛ كقوله – تعالى -: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ *إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}4، وقوله – تعالى -: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّاعَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}5، وقال – تعالى -: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}67.

ويبين صاحب تحفة الأحوذي ماهية حفظ الأجزاء التي ذكرت في الحديث؛ فإن لكل عضو حفظ معين، يقول – رحمه الله تعالى -: “((أن تحفظ الرأس)) أي: عن استعماله في غير طاعة الله؛ بأن لا تسجد لغيره، ولا تصلي للرياء، ولا تخضع به لغير الله، ولا ترفعه تكبراً، ((وما وعى)) أي: جمعه الرأس من اللسان، والعين، والأذن عما لا يحل استعماله، ((وتحفظ البطن)) أي: عن أكل الحرام ((وما حوى)) أي: ما اتصل اجتماعه به من الفرج، والرجلين، واليدين، والقلب، فإن هذه الأعضاء متصلة بالجوف، وحفظها بأن لا تستعملها في المعاصي؛ بل في مرضاة الله – تعالى -“8.

ويذكر ابن رجب – رحمه الله تعالى – كلاماً نفيساً يبين فيه ما يحفظ من الأعضاء،وأخذ بذكر ما يدل على ذلك في كتاب الله، وسنة رسوله  ، وما جاء عن بعض السلف يقول – رحمه الله تعالى -: “وحفظ الرأس وما وعى؛ يدخل فيه حفظ السمع، والبصر، واللسان من المحرمات، وحفظ البطن وما حوى؛ يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرم الله قال الله – عز وجل -: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}9، وقد جمع الله ذلك كله في قوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}10، ويتضمن أيضاً حفظ البطن من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب، ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله – عز وجل – اللسان والفرج، وفي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -عن النبي   قال: ((من حفظ ما بين لحييه، وما بين رجليه؛ دخل الجنة))11 خرجه الحاكم، وخرَّج الإمام أحمد من حديث أبي موسى – رضي الله عنه – عن النبي   قال: ((من حفظ ما بين فقميه، وفرجه؛دخل الجنة))12، وأمر الله – عز وجل – بحفظ الفرج، ومدح الحافظين له فقال: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}13، وقال: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}14، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}، إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}15، قال أبو إدريس الخولاني: أول ما وصى الله به آدم عند إهباطه إلى الأرض: حفظ فرجه، وقال: لا تضعه إلا في حلال”16.

فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء

 

ويأتي في آخر الحديث ذكر ما يدخل في باب الحياء من الله – تعالى -، وقد يكون سبباً فيه، وهو ذكر الموت والقبر، وطلب الآخرة، والفرار من زينة الحياة الدنيا، “((وتتذكر الموت والبلى)) بكسر الباء من بلى الشيء إذا صار خلقاً متفتتاً يعني: تتذكر صيرورتك في القبر عظاماً باليةً، ((ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا)) فإنهما لا يجتمعان على وجه الكمال حتى للأقوياء؛ قاله القارئ، وقال المناوي: لأنهما ضرتان؛ فمتى أرضيت إحداهما أغضبت الأخرى، ((فمن فعل ذلك)) أي: جميع ما ذكر”17.

إن تذكر العبد للموت، وأنه راحلٌ عن هذه الدنيا، وأنه سيقف بين يدي الله – تعالى -؛يورثه كل ذلك الخوف من ربه – سبحانه -، والحياء منه، ومراقبته صبح مساء، وإن نظرالمرء إلى الحياة الدنيا أنها دار ممر وليست بدار مقر، وأنها زائلة ذاهبة كما قال الله {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا}18؛ يجعله أكثر تحفظاً، وأكثر حرصاً على مراقبة جوارحه، وكلما فكر في الآخرة، وما أعد الله فيها لأهل الصبر عن المعاصي؛ اشتد حفاظه على سمعه وبصره وفؤاده وكل ما يملك، وكلما علم أنه ما ترك شيئاً لوجه الله إلا عوضه الله خيراً منه كما في الحديث: ((من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه))19 إلا واستلذ بترك المنكر، فإذا ما فعل المسلم ذلك يبتغي بذلك مرضاة الله؛ آتاه الله خيري الدنيا والآخرة، فهو في الدنيا محفوظ؛ لأنه الله حفظه، فعن ابن عباس – رضي الله عنه – قال: “كنت خلف رسول الله  يوماً فقال: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف))20، وجاء بلفظ آخر عنه أيضاً أنه قال: كنت رديف النبي   فقال: ((يا غلام، أو يا غليم، ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟)) فقلت: بلى، فقال: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو كائنٌ؛ فلو أن الخلق كلهم جميعاًً أرادوا أن ينفعوك بشيءٍ لم يكتبه الله عليك؛ لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك؛ لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً))21.

وهكذا فإن من حفظ الله حفظه في الدنيا، وفي الآخرة وهو الحفظ الأهم، وذلك أن يحفظه الله من عذاب النار، وأن يدخله جنة الأبرار.

اللهم فاحفظنا بحفظك من كل شر، ويسر لنا ترك ما حرمت، وفعل ما به أمرت، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وصلي اللهم على محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.


1 أحمد (8595)، وقال الألباني: صحيح، انظر صحيح الجامع (2349).

2 الترمذي (2382)، وأحمد (3489)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن لغيره (3/164).

3 عمدة القاري (1/129).

4 سورة ق (16-18).

5 سورة يونس (61).

6 سورة الزخرف (80).

7 جامع العلوم والحكم (1/114).

8 تحفة الأحوذي (7/130-131).

9 سورة البقرة (235).

10 سورة الإسراء (36).

11 مستدرك الحاكم (8058)، ونقل مصطفى عطا في تحقيق المستدر تصحيح الذهبي كما في التلخيص، أنظر تحقيق المستدرك لعطا (4/ 397).

12 أحمد (18738)، وقال الألباني: حسن صحيح، انظر صحيح الترغيب والترهيب (2/310).

13 سورة النور (30).

14 سورة الأحزاب (35).

15 سورة المؤمنون (1-2)،(5-6).

16 جامع العلوم والحكم (1/185).

17 تحفة الأحوذي (7/130-131).

18 سورة الكهف (45).

19 ذكره محمد الغزي في “إتقان ما يحسن” (2/571)، وقال الألباني: إسناده صحيح، انظر حجاب المرأة (49).

20 الترمذي (2440)، وأحمد (2537)، وقال الألباني: صحيح، انظر مشكاة المصابيح (3/149).

21 أحمد (2666)، وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح، انظر مسند أحمد (1/307).