مفهوم الإنسانية

 

 

مفهوم الإنسانية

الخطبة الأولى        

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

أيها المسلمون: لقد تنازل بعض المسلمين عن دينه وسار في ركب التميع ” و ” التقلب ” و” العصرنة ” – أعاذنا الله من ذلك -. إن السائر في هذا الطريق الموحش سيتنازل رويداً رويدًا عن ثوابته الإسلامية، إما إرضاء للكفار أو حقدًا على أهل الخير أو طلبًا للتميز والشهرة أو لغير ذلك من الأسباب، وسيقوم بهدم كل المقدسات التي تواجهه في هذا الطريق، عندما يجدها تُخالف هواه.

فالخطوة الأولى في هذا الطريق تبدأ – عادة – بالدعوة إلى ” التسامح مع الآخر ” هكذا بشكل فضفاض! ، ثم تتطور إلى الادعاء بأن الكفار إخوة للمسلمين! ثم تتدرج إلى التشكيك في مبدأ الولاء والبراء ! ثم ترتقي إلى التشكيك في كفر اليهود والنصارى وغيرهم ! ثم الدعوة إلى المذهب “الإنساني” الذي لا يُفرق بين مسلم وكافر، إلى أن يصل السائر إلى نهاية الكفر؛ بالدعوة إلى وحدة الأديان. بل وحدة الوجود – والعياذ بالله -. وكل هذا قد حصل من ضُلال متنوعين.

أيها المسلمون ومن هذا الضلال ما يسمى بالإنسانية وهي فكرة جاهلية كفرية تقوم على نبذ الدين، وعلى خلط الحق بالباطل، وعدم الممايزة بين من وصفهم الله بأنهم{خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} ومن وصفهم بأنهم {شَرُّ الْبَرِيَّةِ} و(أضل من الأنعام). وهذا الدين أو هذه الفكرة ليست جديدة في عالم الأفكار، أو في عالم المسلمين. فقد بدأت الدعوة إليها منذ أن اختار الغرب الانقلاب على كنيسته المتسلطة ودينه المُحرف. وقد بين علماء الإسلام أمرها منذ أن وفدت إلى ديارهم1على يد متبعي سَنَن اليهود والنصارى.

والإنسانية كما يزعمون هي: كل دعوة موضوعها الإنسان تؤكد فيه كرامته، وتجعله مقياس كل قيمة، وهي عند (كونت) ديانة تزعم أن الإنسانية وليس الله هي الأولى بالعبادة !وهي -أيضاً- فلسفة عصر النهضة الأوربية التي مثلت إسهام مفكريه في محاولة تثبيت أقدام الإنسان بالأرض وتحويل أنظاره إليها ودمجه بالطبيعة وإثارة إحساسه بدوره التاريخي).

وجاء في المعجم الفلسفي أيضاً أن مصطلح الإنسانية يُستعمل في معان كثيرة، ويطلق بخاصة على: أولاً: تلك الحركة الفكرية التي سادت في عصر النهضة الأوربية، وكانت تدعو إلى الاعتداد بالفكر الإنساني ومقاومة الجمود والتقليد، وترمي بوجه خاص إلى التخلص من سلطة الكنيسة وقيود القرون الوسطى، ومن أشهر دعاتها (بترارك) و(إرزم) .

والمخططون لدعوة الإنسانية الحديثة هم اليهود، وهدفهم المهم والحقيقي منها هو نبذ المبادئ والمذاهب والمعتقدات والنظم التي تسبب الفرقة والتنازع بين الناس – حسب زعمهم-، وأهم ما يجب في دعوة الإنسانية –كما يجاهرون- هو نبذ الدين. وأخطر الأديان التي تقف حاجزاً أمام مخططي دعوة الإنسانية –وفق مفهومهم- هو الدين الإسلامي، إذ هو الطود العظيم الذي يريدون دكه والإجهاز عليه.

ومما سبق تبين أن الإنسانية في المفهوم الغربي ترتكز على الإيمان بالإنسان،والاعتقاد بقيمته واعتباره مقياس كل شيء، ويتم ذلك عن طريق تحقيق الحرية، وسبيل ذلك لديهم تحطيم ما يسمونه قيود العصر الوسيط ومقاومة الجمود والتقليد، والسعي إلى إحياء التراث اليوناني والروماني.

وبذلك فإن الإنسانية أصبحت بمثابة دين يعبد من دون الله، فهي تجعل الإنسان مقياس كل شيء، وقادرًا على بلوغ حقه المطلق للتمتع بالحياة.

إن من مظاهر مفهوم الإنسانية عند أصحاب الاتجاه التوفيقي هو النظر إلى ما يخص النوع البشري والتهاون فيما ينبغي من اعتبار معيار الحق والالتزام به، فهم حين ينادون بشعار “الإخاء الإنساني” بدعوى عدم التفرقة بين أنواع البشر، إنما يتابعون في ذلك مفكري الغرب الذين سبقوا إلى تبني هذا الشعار، وردده عدد من مفكريهم في مطلع ما يسمى عندهم عصر النهضة؛ بل الأنكى من ذلك أن بعض هؤلاء المفكرين ذهب إلى تأويل الآيات القرآنية تأويلاً لا يمت إلى الإسلام بصلة، إذ يقول أحدهم مثلاً: “إن لفظ (الإسلام) في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}(19)سورة آل عمران، وقوله تعالى:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(85) سورة آل عمران. لا يعني إلا الاستسلام لرب واحد،فإذا تحقق استسلام أحد من الناس مسلماً كان أم غير مسلم فهو مرضي عند الله !!

عباد الله: لقد قام المذهب الإنساني في عصر النهضة الأوربية على يد فلاسفة هذا المذهب لإبراز القيمة الجوهرية لحياة الإنسان في الدنيا دون الاهتمام بالعنصر الروحي له، ودون العناية بالدين؛ وذلك في مقابل نظرة الكنيسة القاصرة للإنسان.

ونشأت –فيما بعد- الحركة الإنسانية الجديدة، وفي إطار من ازدهار حركة الفلسفات الغربية التي بالغت في إعلاء قيمة الإنسان إلى حد تقديسه وتأليهه. ويتضح ذلك فيما نادت به في بداية عصر التنوير (الرومانطيقية) و(الفلسفة الطبيعية) من إخضاع الإنسان لمفاهيم تربوية وبيولوجية جديدة؛ وذلك في القرن الثامن عشر.

وفي القرن التاسع عشر اتجهت الحركة الإنسانية إلى العقلانية والعلمية، حيث وضعت فلسفات هذا القرن ثقتها في قوة العقل البشري ومنطقية العلم الإنساني، ومن هذا الاتجاه انبثقت الاشتراكية بأشكالها.

والفكر الغربي بعامة لم يقف –في الظاهر- عند محاربة الدين، بل حاول إيجاد بديل للدين، يتمثل في دعوات كثيرة، أبرزها “الإنسانية”، التي جعلت من الإيمان بالإنسانية بديلاً عن الإيمان بالله، وأعلنت أن الإنسانية غاية لا تُعرف غاية وراءها.

والقاسم المشترك بين فلاسفة المذهب الإنساني الغربي من عصر (بروتاغوراس) إلى عصر (أوجست كونت): أنهم يثقون في العلم والعقل ثقة مطلقة، ويعتبرونهما منقذين رئيسين للإنسان. وأن منهج معرفة الإنسان وفلسفة الإعلاء لقيمته يبدأ بتوجيه الإنسان نحو الأفضل وفق رؤية محدودة لهذه الفلسفات بصورة أدت إلى الانتقاص من فطرة الإنسان وذاتيته، بل الانحدار به إلى عالم الحيوانات.

لقد عنيت الإنسانية الغربية بحياة الإنسان الدنيوية، وأنكرت الحياة الآخرة، مما أدى بها إلى القول بالمصادفة بحدوث الخليقة، والحتمية التاريخية، والقول بأن قدرة الطبيعة تستطيع أن تكوِّن جسم الإنسان بتركيباته العجيبة ووظائفه العديدة. وتعتبر هذه النظرة من أخطر مزالق الحركة الإنسانية في الغرب2.

وأما الإسلام فهو الدين الوحيد الذي اهتم بالإنسانية من جميع جوانبها فاهتم بجسد الإنسان وروحه وعقله ذلك أنه دين مَن خلق هذا الإنسان وصوره وأوجده {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (14) سورة الملك. وهذا ما سنتطرق إليه في الخطبة الثانية، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعثه ربه رسولاً إلى الناس أجمعين،أما بعد:

أيها المسلمون: لقد جاء الإسلام وجاءت نبوة سيد الخلق محمد ،وجاء الوحي القرآني من أجل أن يكون الإسلام دين الإنسانية؛ حيث يزخر القرآن الكريم والسنة النبوية بالآيات والأحاديث الشريفة الدالة على التأكيد على الجانب الإنساني الواقعي لهذا الدين العالمي.

ولقد سما الإسلام بالإنسان روحاً وجسداًَ، عقلاً وقلباً، ولم يضع في عنقه غلاً، ولا في رجله قيداً، ولم يحرم عليه طيباًً، كما أنه لم يدعه كالكرة تتخطفها مضارب اللاعبين، فتتهادى في كل اتجاه، بل خاطبه ربه خطاباً صريحاً: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} الانفطار:6-8 {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} الانشقاق:6.

يقول ابن القيم رحمه الله: اعلم أن الله   اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله وشرفه وخلقه لنفسه وخلق كل شيء له وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره وسخر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما حتى ملائكته الذين هم أهل قربه استخدمهم له وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته وظعنه وإقامته وأنزل إليه وعليه كتبه وأرسله وأرسل إليه …3 إلخ، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات؟

ومِن ثَمَّ -عباد الله- فإن الحضارة الإسلامية تميزت بالنـزعة الإنسانية عن غيرها من  الحضارات الأخرى، إذ نقلت الإنسانية من أجواء الحقد والكراهية والتفرقة والعصبية إلى أجواء الحب والتسامح والتعاون والتساوي أمام الله وفي كيان المجتمع،تساوياً لا أثر فيه لاستعلاء عرق على عرق أو فئة على فئة أو أمة على أمة إلا بتقوى الله تعالى.

إن النـزعة الإنسانية في مبادئها تبدو واضحة مشرقة كالشمس حين يعلن الإسلام أن الناس جميعاً خلقوا من نفس واحدة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء، فالأصل البشري لأبناء البشرية قاطبة هو أصل واحد،

ومهما تفرق الناس بعد ذلك إلى أمم وقبائل وبلدان وأجناس، فإنما هو كتفرق أبناء البيت الواحد وهم من أب واحد وأم واحدة يكون تفاضلهم على قدر إيمانهم وتقواهم. وعلى هذا الأساس انبثق المبدأ الإنساني الخالد ليكون إعلاناً للبشرية قاطبة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(13)سورة الحجرات.

وهكذا يستمر الإسلام في إعلان الوحدة الإنسانية بين أفراده عبر آيات القرآن وأحاديث وأفعال النبي  كإخوة من أب وأم، والوحدة الاجتماعية في المجتمع كشجرة تهتز أغصانها إذا لمستها الرياح لا فرق بين أعلاها وأدناها. ومن المفيد أن نلفت النظر لنلحظ كثرة الخطاب القرآني للناس بالألفاظ التي تشعرهم بوحدة الأصل الإنساني: يا أيها الناس، يا بني آدم، دون أن يميز الخطاب أمة على أمة أو جنساً على جنس أو فريقاً على فريق آخر، وذلك في معرض دعوتهم إلى توحيده وإخلاص العبادة له سبحانه وتعالى كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(22) سورة البقرة.

قال السعدي رحمه الله: هذا أمر عام لكل الناس، بأمر عام، وهو العبادة الجامعة،لامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وتصديق خبره، فأمرهم تعالى بما خلقهم له، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(56) سورة الذاريات4.

إن النـزعة الإنسانية في التشريع الحضاري للرسالة الإسلامية تبدو واضحة في كل باب من أبوابه، ففي الصلاة يقف الناس جميعاً بين يدي الله، لا يخصص مكان لملك أو عظيم أو عالم، وفي الصوم يجوع الناس كلهم، لا يستثنى من بينهم أمير أو غني أو شريف، وفي الحج يلبس الناس لباساً واحداً، ويقفون موقفاً واحداً، ويؤدون منسكاً واحداً لاتمييز بين قاصٍ ودانٍ، ولا بين قوي وضعيف، ولا بين أشراف وعامة.

فإذا انتقلنا إلى أحكام القانون المدني الإسلامي وجدنا الحق هو الشرعة السائدة والمطلقة بين الناس، والعدل هو الغرض المقصود من التشريع، ودفع الظلم هو اللواء الذي يرفعه القانون ليفيء إليه كل مضطهد ومظلوم. وإذا التفتنا إلى القانون الجزائي رأينا العقوبة واحدة لكل من يرتكبها من الناس، فمن قَتَلَ قُتل، ومن سَرَقَ عوقب، ومن اعتدى أُدِّب، لا فرق أن يكون المعتدي أمير المؤمنين أو عامل النسيج، والمعتدى عليه أعجمياً كان أو عربياً، شرقياً كان أو غربياً، فالكل سواء في ميزان التشريع الإسلامي سواء:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} (178) سورة البقرة.

هذا هو ميزان الإسلام، وهذه هي نزعته الإنسانية التي تنظر إلى الإنسان أنه مخلوق مكرم مبجل إن حقق الغاية من خلقه وإيجاده، وإلا فهو كالأنعام بل أضل. أسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته وعبادته، وأن يجنبنا معاصيه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.


1 ومن هؤلاء الشيخ محمد قطب في: كتابه ” مذاهب فكرية معاصرة ” ، والدكتور عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني في كتابه” كواشف زيوف ” ، و” الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب .. ” التي أصدرتها الندوة العالمية للشباب الإسلامي ( 2 / 809-812). و”معجم المناهي اللفظية ” للشيخ بكر أبو زيد ( ص 162-163) ، ومقال المقدم سعد القرني في مجلة كلية الملك عبد العزيز الحربية ( عدد ذي الحجة 1424) بعنوان ” الإنسانية : شعار براق وحقيقة مسمومة “. ومما كتب في المذهب الإنساني مؤخرًا : رسالة دكتوراه قيمة – لم تُطبع بعدُ – بعنوان : ( الإنسانية في فكر المسلمين المعاصر – دراسة وتقويم ؛ للدكتور محمد إدريس عبد الصمد ، نوقشت عام 1417هـ ) . 

2 مستفاد من مقال بعنوان (الإنسانية) لسليمان بن صالح الخراشي. بتصرف.

3 مدارج السالكين     جزء 1 –  صفحة 210  

4 تفسير السعدي – (ج 1 / ص 44)