حسن الخاتمة

حسن الخاتمة

 

الحمد رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.. أما بعد:

نمضي في هذه الدنيا ولا ندري متى يتوقف بنا قطار الحياة، نعم قطار الحياة ذاك الذي يتوقف فجأة بدون أي مقدمات، فالعاقل اللبيب هو الذي يكون على استعداد لأي توقف طارئ، والغافل اللاهي لا يشغل نفسه بذلك؛ فتراه متمادياً في غيه، مستغرقاً في شهواته، لا يصحو إلا على نداء: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}1، فيندم في تلك الساعة، ولكن لا ينفع الندم آن ذاك.

أما العقلاء الذين يعلمون أنهم موقوفون عند ربهم، وسائلهم عن كل صغير وكبير، وأن الموت يأتي بغتة فتراهم في يقظة تامة، يسألون الله –عز وجل- في كل لحظاتهم حسن الخاتمة، فهذا سيد الخائفين وإمام المتقين، وخير المرسلين، يخاف أن يقلب قلبه، وأن ينصرف عن عبادة ربه، فقد كان من دعائه –عليه الصلاة والسلام- فعن أم سلمة –رضي الله عنها- قالت: كان أكثر دعائه: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))، قالت: فقلت: يا رسول الله ما أكثر دعاءك: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك))؟ قال: ((يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ))2.

وقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة خوفاً شديداً، قال سهل التستري: "خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال: {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}3، ولما احتضر سفيان جعل يبكي ويجزع، فقيل له: يا أبا عبد الله، عليك بالرجاء فإن عفو الله أعظم من ذنوبك، فقال: أو على ذنوبي أبكي؛ لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا"4.

والسعي لحسن الخاتمة غاية الصالحين، وهمة العباد المتقين، ورجاء الأبرار الخائفين، قال الله –تعالى-: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}5، وقال تعالى في وصف أولي الألباب: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ}6، وقال تعالى عن التائبين: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ }7.

وكم من الناس ممن لم يوفق لحسن الختام، وما عملوا للقاء الملك العلام، يقول ابن القيم –رحمه الله- في جوابه الكافي: "وأدهى وأمر هو أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله –تعالى- فربما تعذر عليه النطق بالشهادة؛ كما شاهد الناس كثيراً من المحتضرين أصابهم ذلك حتى قيل لبعضهم: قل لا إله إلا الله، فقال: آه آه، لا أستطيع أن أقولها، وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فقال: شاه رخ غلبنك، ثم قضى، وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فقال: يارب قائلة يوما وقد تعبت … أين الطريق إلى حمام منجاب

ثم قضى، وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء، ويقول: تاتا ننتنتا، فقال: وما ينفعني ما تقول؛ ولم أدع معصية إلا ركبتها، ثم قضى ولم يقلها، وقيل لآخر ذلك، فقال: وما يغني عني؟! وما أعلم أني صليت لله –تعالى- صلاة ثم قضى ولم يقلها، وقيل لآخر ذلك، فقال: هو كافر بما تقول وقضى، وقيل لآخر ذلك، فقال: كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها، وأخبرني من حضر بعض الشحاذين عند موته، فجعل يقول: لله فليس، لله فليس حتى قضى، وأخبرني بعض التجار عن قرابة له انه احتضر وهو عنده؛ فجعلوا يلقنونه: لا إله إلا الله، وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذا مشترى جيد، هذه كذا حتى قضى"8.

ونذكر هنا شيئاً من أسباب التوفيق إلى حسنِ الخاتمةِ:

فمِن ذلك المحافظةُ على الصلواتِ جماعةً، ففي الحديث: ((من صلّى البردَين دخل الجنة))9، والبردان هما الفجر والعصر، ومن داوم عليهما وصلاَّهما فهو بالقِيامِ بِغيرهما من الصّلوات أولى.

ومن أسباب التوفيقِ لحسنِ الخاتمة الإيمان والإصلاح، الإصلاح للنفس، والإصلاح للغير، كما قال –تعالى-: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}10.

ومِن أسباب توفيق الله لحسن الخاتمة تقوَى الله في السرِّ والعلن؛ بامتثالِ أمرِه، واجتنابِ نهيِه، والدوامِ على ذلك، كما قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }11.

ومِن أسبابِ التّوفيقِ لحُسنِ الخاتمة اجتنابُ الكبائر وعظائمِ الذّنوب، قال الله -تبارك وتعالى-: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا}12.

ومِن أسبابِ حُسن الخاتمة العافيةُ مِنَ البدع، فإنَّ ضررَها كبير وفسادَها خطير، والبِدعُ هي التي تفسِدُ القلوبَ وتهدِم الدّين وتنقُضُ الإسلام عُروةً عروةً، قال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}13، وهؤلاء المنعَمُ عليهم مبرَّؤونَ من البدَع كلِّها.

ومن أسباب حسنِ الخاتمة الدعاءُ بذلك للنفسِ، كما سبق من دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم- بطلب الثبات حتى الممات، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}14.

وهنا كلام قيم لابن القيم يبين أن التوفيق لحسن الخاتمة لا يكون لمن غفل عن أوامر الله، وتعداه حدود مولاه، يقول –رحمه الله-: "فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله –سبحانه- قلبه عن ذكره، واتبع هواه، وكان أمره فرطاً، فبعيد من قلب بعيد من الله –تعالى- غافل عنه متعبد لهواه مصير لشهواته، ولسانه يابس من ذكره، وجوارحه معطلة من طاعته، مشتغلة بمعصية الله –كيف له- أن يوفق لحسن الخاتمة، ولقد قطع خوف الخاتمة ظهور المتقين، وكأن المسيئين الظالمين قد أخذوا توقيعاً {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ}15

يا آمنا من قبيح الفعل يصنعه

 

جمعت شيئين أثماً واتباع هوىً

 

والمحسنون على درب المخاوف قد

 

فرطت في الزرع وقت البذر من سفه

 

هذا وأعجب شيء منك زهدك في  

 

فهل أتاك تواقيع أم أنت تملكه

 

هذا وإحداهما في المرء تهلكه

 

ساروا وذلك درب لست تسلكه

 

فكيف عند حصاد الناس تدركه

 

دار البقاء بعيش سوف تتركه16

 

 

اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة، ونسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله…وصلي اللهم على محمد وعلى آله، وصحبه وسلم..


 


1 سورة ق(19).

2 رواه الترمذي برقم(3444)، وقال الألباني: صحيح، انظر صحيح الترمذي(2792).

3 سورة المؤمنون(60).

4 إحياء علوم الذين(4/172).

5 سورة البقرة(132).

6 سورة آل عمران(193).             

7 سورة الأعراف(126).

8 الجواب الكافي(62).

9 البخاري(540)، ومسلم(1005).

10 سورة الأنعام(48).

11 سورة القصص(83)

12 سورة النساء(31).

13 سورة النساء (69).

14 سورة غافر(60).

15 سورة القلم(39)، (40).

16 الجواب الكافي لابن القيم (62، 63).