إنه كان صادق الوعد

إنه كان صادق الوعد

 

الحمد لله الذي لا يخلف وعده، ولا يمنع سائله رفده، ولا ينقص مع كثرة عطاياه ما عنده، وأشهد ألا إله إلا الله الملك المعبود وحده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الكريم إذا وفَّى، الحليم متى عفا، الرحيم بكل الورى، أما بعد:

أيها المبارك:

يذكر لنا أحد الإخوة المبتعثين للدراسة في إحدى الدول الغربية أنه دعا أحد دكاترته في الجامعة لتناول وجبة الغداء عنده في المنزل، فأبدى موافقته على أن يلتقيان الساعة الثالثة عصراً، يقول: وقبل الموعد بعشر دقائق اضطررت للنزول لأخذ بعض الأغراض من المتجر المجاور، وفوجئت بالدكتور عند باب المنزل واقفا،ً فقلت له يا دكتور: لِمَ لَمْ تدخل؟ فرد علي بلطف وأدب: بقى على موعدنا عشر دقائق، فآثرت أن أنتظر حتى يحين الموعد، ثم أطرق عليك بابك، يقول: فتعجبت وبقيت مبهوراً ومشدوهاً من كلامه، وتساءلت: من أحق بهذا.

حالنا والمواعيد:

أيها الكرام: هذا الموقف يذكرنا بحالنا في المواعيد، ويجسد هذا الحال ما قاله أحد الممثلين في مسرحية له: "نحن جاهزون لعرض المسرحية، لكننا تعمدنا التأخير عشر دقائق حتى نثبت لكم أننا عرب!"، والناس تقول: مواعيد عرب!، وكأن عدم احترام المواعيد ارتبط بنا نحن العرب فقط، وهذا ما ترسخ لدى غيرنا من الشعوب، فلو قرأت ما يكتبون في مواقعهم على الإنترنت، أو في كتبهم وصحفهم؛ ستجد أن الإنسان العربي لديهم كتلة من الفوضى، وعدم احترام القانون والمواعيد.

والقوم بصدق لم يتجنوا علينا، أو يكتبوا ما لم نتصف به، بل هذا واقعنا للأسف، كثيراً ما نربط مواعيد فيما بيننا على أن نلتقي في ساعة محددة، ثم تمر الساعات وما التقى أحدنا بالأخر، كما قال أحدهم مصوراً الحال: "موعدنا الساعة الثامنة، وسأقابلك الساعة التاسعة، فإذا تأخرت إلى الساعة العاشرة، فلا باس أن تتحرك الساعة الحادية عشر"،

أما شريحة الملتزمين مع المواعيد؛ فالتساهل بأمرهـا وعدم الشعور بالتأثم من إخلافه؛ قد درج بين قطاع عريض منهم، حتى أنك تشعر بالكبت، ويعتريك الأسى من واقعهم وتهاونهم، ولذا أحببت أن ألفت الأنظار قليلاً في هذا الموضوع ليتدارك الخلل، ويتفادى الزلل.

أيها الموفق:

إن ديننا الحنيف حث على هذه الخصلة الكريمة، بل جعل الوفاء بالوعد من شيم النفوس الشريفة، وخلال الكرام الحميدة، يعظم صاحبه في العيون، وتصدق فيه خطرات الظنون.

ولقد أثنى الله – عز وجل – على نبيّه إسماعيل – عليه السلام – فقال: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}1  جاء في تفسيرها أنه كان لا يعد أحدا شيئا إلا أنجزه فسماه الله ( صادق الوعد )

 يقول سفيان الثوري: بلغني أن إسماعيل وصاحبا له أتيا قرية فقال له صاحبه: إما أن أجلس وتدخل فتشتري طعاما زادنا، وإما أن أدخل فأكفيك ذلك، فقال له إسماعيل: بل ادخل أنت وأنا أجلس أنتظرك، فدخل ثم نسي، فخرج فأقام مكانه حتى كان الحول من ذلك اليوم، فمر به الرجل فقال له: أنت ههنا حتى الساعة، قال: قلت لك: لا أبرح حتى تجيء فقال تعالى فيه:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}2.

وقد كان – صلى الله عليه وسلم –  أعظم خلق الله وفاءً بالوعد، ذكر السخاوي في كتابه التماس السعد في  الوفاء بالوعد أن أبا هريرة – رضي الله عنه – أخبر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:كان قد وعد أبا الهيثم بن تيهان أن يعطيه خادماً فأُتي بثلاثة من السبي؛ فأعطى اثنين، وبقي واحد؛ فأتت فاطمة – رضي الله عنها – تطلب منه خادماً وتقول: "ألا ترى أثر الرحى بيدي؟"، فذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – موعده لأبي الهيثم فقال: ((كيف بموعدي لأبي الهيثم؟)).

وهذا عبد الله بن أبي الحمساء – رضي الله عنه – يقول: "بايعت النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل أن يبعث، وبقيت له بقية؛ فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: ((يا فتى لقد شققت على أنا هاهنا منذ ثلاث انتظرك)).3

إذا قلت في شيء "نعم" فأتمـه               فإنَّ نَعَمْ دَيْنٌ على الحر واجب

وإلا فقل "لا" تسترح وترح بها               لئلا يقول النـاس: إنك كاذب

أخلاق الكبار:

فيا أخي: كم يكون الرجل عظيماً في نفوس الآخرين عندما يلتزم بوعده، ويحفظ كلمته.

وكم يكون منبوذاً؟ بل وكم يجرح دينه ومروءته ورجولته؟ عندما يخلف وعده، و لا يلتزم به.

ولك أن تتأمل موقف عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – وقد حضرته الوفاة قال: "إنه كان خطب ابنتي رجل من قريش، وقد كان إليه مني شبه الوعد، فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق؛ أشهدكم أني قد زوّجته ابنتي"،    

وكان ابن مسعود – رضي الله عنه – لا يعد وعداً إلا قال: (إن شاء الله).4

قال عبد ربه القصاب: واعدت محمد بن سيرين أن أشتري له أضاحي، فنسيت موعده لشغل، ثم ذكرت بعد فأتيته قريباً من نصف النهار، وإذا محمد ينتظرني، فسلمت عليه؛ فرفع رأسه فقال: أما إنه قد يقبل أهون ذنب منك، فقلت: شغلت وعنفني أصحابي في المجيء إليك، وقالوا: قد ذهب ولم يقعد إلى الساعة، فقال: لو لم تجئ حتى تغرب الشمس ما قمت من مقعدي هذا، إلا للصلاة أو حاجة لا بد منها.

وكان بعض السادات يغتم إذا وعد حتى يفي.

ومما جاء عن القدماء أن عوف بن النعمان الشيباني كان يقول في الجاهلية: "لأن أموت عطشاً أحب إلي من أن أموت مخلافاً لوعد"5.

انتبه وتيقظ:

إذا وعد الإنسان وكان عند الوعد عازماً على أن لا يفي فهذا هو النفاق بعينه، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"6.

يقول صاحب الإحياء: "إذا وعد أخلف هو على نوعين: أحدهما: أن يعد ومن نيته أن لا يوفي بوعده، فهذا أشر الخلق، ولو قال: أفعل كذا إن شاء الله تعالى، ومن نيته أن لا يفعل كان كذباً قاله: الأوزاعي.7

لا تكن عرقوبياً:

فعرقوب رجل من العماليق، كان من خبره أنه أتاه أخ له يسأله شيئاً فقال له: إذا أطلع نخلي، فلما أطلع أتاه فقال: إذا أبلح، فلما أبلح أتاه فقال: إذا أزهى، فلما أزهى أتاه فقال: إذا أرطب، فلما أرطب أتاه فقال: إذا صار تمراً، فلما صار تمراً جذه بالليل، ولم يعطه شيئاً، فصار المثل يضرب به في الإخلاف فيقال: أخلف من عرقوب، يقول كعب بن زهير فيه:

كانَت مَواعيدُ عَرقوبَ لَها مَثلاً               وَما مواعيدُها إِلاّ الأَباطِيلَ8

نسأل من الله لنا ولك العافية من الخصال المنكرة، والطباع المستقبحة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


1– (سورة مريم:54).

2– (سورة مريم:54).

3–  تأمل "السعد في الوفاء بالوعد" لأبي الخير السخاوي.

4– موعظة المتقين من إحياء علوم الدين (3\133).

5– المستطرف (200).

6– رواه البخاري برقم (32) ومسلم برقم (89).

7– الإحياء (3\133).

8– المستطرف (ص200).