أساس البيت الحرام

أساس البيت الحرام

الحمد لله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

قال الله – تعالى -: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}1.

المسجد الحرام هو بيتٌ أمر الله خليله إبراهيم   بإقامته على التوحيد، وتطهيره من الشرك، وأمره أن يؤذن في الناس بالحج إليه، ليذكروا اسم الله لا أسماء الآلهة المدعاة؛ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ويأكلوا منها، ويطعموا البائس الفقير على اسم الله دون سواه، فهو بيت حرام، حرمات الله فيه مصونة وأولها حرمة عقيدة التوحيد، وفتح أبوابه للطائفين والقائمين والركع السجود، إلى جانب حرمة الدماء، وحرمة العهود والمواثيق، وحرمة الهدنة والسلام.

وتعظيم حرمات الله يتبعه التحرج من المساس بها وذلك خير عند الله، خير في عالم الضمير والمشاعر، وخير في عالم الحياة والواقع، فالضمير الذي يتحرج هو الضمير الذي يتطهر، والحياة التي ترعى فيها حرمات الله هي الحياة التي يأمن فيها البشر من البغي والاعتداء، ويجدون فيها متابة أمن، وواحة سلام، ومنطقة اطمئنان.

ولما كان المشركون يحرمون بعض الأنعام كالبحيرة والسائبة، والوصيلة والحامي، فيجعلون لها حرمة (وهي في الأصل ليست من حرمات الله)؛ بينما هم يعتدون على حرمات الله؛ فإن النص يتحدث عن حِلِّ الأنعام إلا ما حرم الله منها كالميتة والدم، ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير الله به: {وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم} وذلك كي لا تكون هنالك حرمات إلا لله; ولا يشِّرع أحد أو يحكم إلا بإذن الله وبشريعة الله.

وبمناسبة حلِّ الأنعام؛ يأمر باجتناب الرجس من الأوثان حين كان المشركون يذبحون عليها وهي رجس،والرجس دنس النفس، ومنه الشرك بالله الذي هو دنس يصيب الضمير، ويلوث القلوب، ويشوب نقاءها وطهارتها كما تشوب النجاسة الثوب والمكان.

ولأن الشرك افتراء على الله وزور فإنه يحذر من قول الزور كافة: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور}، ويغلظ النص من جريمة قول الزور؛ إذ يقرنها إلى الشرك، وهكذا روى الإمام أحمد – بإسناده – عن فاتك الأسدي قال: “صلى رسول الله   الصبح، فلما انصرف قام قائماً فقال: ((عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ​​​​​​​  ثم تلا هذه الآية…))2.

إنما يريد الله من الناس أن يميلوا عن الشرك كله، وأن يجتنبوا الزور كله، وأن يستقيموا على التوحيد الصادق الخالص {حنفاء لله غير مشركين به}، ثم يرسم النص مشهداً عنيفاً يصور حال من تزل قدماه عن أفق التوحيد فيهوي إلى درك الشرك، فإذا هو ضائع ذاهب بدداً كأن لم يكن من قبل أبداً: {ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق}، إنه مشهد الهوي من شاهق {فكأنما خر من السماء}، وفي مثل لمح البصر يتمزق {فتخطفه الطير}، أو تقذف به الريح بعيداً عن الأنظار {أو تهوي به الريح في مكان سحيق} في هوة ليس لها قرار.

والملحوظ هو سرعة الحركة مع عنفها، وتعاقب خطواتها في اللفظ “بالفاء” وفي المنظر بسرعة الاختفاء على طريقة القرآن الكريم في التعبير بالتصوير، وهي صورة صادقة لحال من يشرك بالله فيهوي من أفق الإيمان السامق إلى حيث الفناء والانطواء، إذ يفقد القاعدة الثابتة التي يطمئن إليها “قاعدة التوحيد”، ويفقد المستقر الآمن الذي يثوب إليه; فتتخطفه الأهواء تخطف الجوارح، وتتقاذفه الأوهام تقاذف الرياح، وهو لا يمسك بالعروة الوثقى، ولا يستقر على القاعدة الثابتة التي تربطه بهذا الوجود الذي يعيش فيه {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}3،

ثم يعود السياق من تعظيم حرمات الله باتقائها والتحرج من المساس بها؛ إلى تعظيم شعائر الله – وهي ذبائح الحج – باستسمانها، وغلاء أثمانها:{ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب * لكم فيها منافع إلى أجل مسمى، ثم محلها إلى البيت العتيق}، ويربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب; إذ أن التقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره، وهذه المناسك والشعائر إن هي إلا رموز تعبيرية عن التوجه إلى رب البيت وطاعته، وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم   وما تلاه، وهي ذكريات الطاعة والإنابة، والتوجه إلى الله منذ نشأة هذه الأمة المسلمة فهي والدعاء والصلاة سواء.

وهذه الأنعام التي تُتَّخذُ هدياً يُنحر في نهاية أيام الإحرام؛ يجوز لصاحبها الانتفاع بها، فإن كان في حاجة إليها ركبها، أو في حاجة إلى ألبانها شربها؛ حتى تبلغ محلها – أي مكان حلها – وهو البيت العتيق، ثم تُنحَر هناك ليأكل منها، ويطعم البائس الفقير.

“وقد كان المسلمون على عهد النبي   يغالون في الهدي، ويختارونه سميناً غالي الثمن، يعلنون بها عن تعظيمهم لشعائر الله، مدفوعين بتقوى الله كما روى عبد الله بن عمر   قال: أهدي عمر نجيباً فأعطى بها ثلاث مائة دينار، فأتى النبي   فقال: يا رسول الله إني أهديت نجيباً، فأعطيت بها ثلاث مئة دينار أفأبيعها، وأشتري بثمنها بدناً؟ قال: ((لا أنحرها إياها)).

والناقة النجيب التي جاءت هدية لعمر  ، وقوِّمت بثلاث مائة دينار؛ لم يكن عمر   يريد أن يضن بقيمتها، بل كان يريد أن يبيعها فيشتري بها نوقاً أو بقراً أكثر للذبح، فشاء رسول الله   أن يضحي بالنجيب ذاتها لنفاستها،وعظم قيمتها، ولا يستبدل بها نوقاً كثيرة قد تعطي لحماً أكثر، ولكنها من ناحية القيمة الشعورية أقل، والقيمة الشعورية مقصودة {فإنها من تقوى القلوب}، وهذا هو المعنى الذي لحظه رسول الله   وهو يقول لعمر  : ((أنحرها إياها))4هي بذاتها لا سواها!

نسأل الله – تعالى- أن يرزقنا تحقيق التوحيد، وإخلاص العبادة، والامتثال لأمره، واتباع سنة نبيه، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


1 الحج (30-31).

2 رواه الترمذي برقم (2299)، وقال الشيخ الألباني: ضعيف انظر حديث رقم 6387 في ضعيف الجامع.

3 الحج (32-33).

4 رواه البيهقي برقم (10024).