إعفاء اللحية من سنن الفطرة

إعفاء اللحية من سنن الفطرة

 

الحمد لله الذي من علينا بإكمال الدين، وأمرنا باتباع هدي الأنبياء والمرسلين، وحذرنا من سبيل المخالفين والعاصين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله حق تقواه، واتبعوا نبيكم محمداً -صلى الله عليه وسلم- فإنَّ هديه خير الهدى، وسنته أقوم السنن، وسبيله أهدى السُّبل، واتبعوه في عباداته وأخلاقه لتسعدوا في الدنيا والآخرة، وتفوزوا بالتجارة الرابحة، فإنه ما ترك خيراً قط إلا بينه لنا ورغبنا فيه، ولا ترك شراً إلا بينه وحذرنا منه.

ولقد أدرك ذلك أقوامٌ فتبعوه ونجوا، وأعرض عن ذلك أقوامٌ فخالفوه فهلكوا.

أيها الناس: لقد كان المسلمون -خصوصاً في بلاد الجزيرة العربية- إلى زمن قريب يتمسكون تمسكاً تامَّاً بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في خصال الفطرة التي فطر الله عباده عليها، فكانوا يستبْقون لحاهم، ويحفُون شواربهم اقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وامتثالاً لأمر نبيهم، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، كما قال سبحانه وتعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ}(80) سورة النساء. وقال سبحانه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(31) سورة آل عمران.

ولقد كان المتبعون لهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعيبون من خالف تلك السنة التي هي من الفطرة، بل يهجرونه ويرونه مخالفاً، حتى دب فيهم داء المخالفة والعصيان في هذا الأمر، فتجاسروا على مخالفة النبي -صلى الله عليه وسلم- في فعله وقوله، في هذه الفطرة -فطرة إعفاء اللحى- فبدأوا قليلاً قليلاً يحلقون لحاهم حتى فشا ذلك فيهم وكثُر، وانقلبت الحال إلى أن صار يعاب من يستبقي لحيته فعاد المعروف منكرا، والمنكر معروفاً!! وصارت الأمة الإسلامية لا تمثل أمة الإسلام في مظهرها حين ظهور الإسلام وقوة أهله.

أيها المسلمون: ثبت في الكتاب والسنة أن اللحية من سنن المرسلين الأولين والآخرين.

فهذا هارون -عليه الصلاة والسلام- يقول لموسى -عليه الصلاة والسلام-: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي}(94) سورة طـه. وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثبت عنه أنه كان كثُّ اللحية -أي: كثيفها- وأمر أمته بإعفائها وتوفيرها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ"1.

فالمشروع في حق الرجل المؤمن بالله ورسوله حقاً، المريد لنجاته يوم القيامة، وطهارة قلبه وكمال إيمانه، أن يبادر إلى امتثال أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويتوب من حلقها ليكون بذلك مقتدياً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ممتثلاً لأمره، ولَيجدَنَّ من حلاوة الإيمان ولذة المتابعة ما يفوق ارتياحه لحلقها -إن كان فيها راحة!- بأضعافٍ مضاعفة، فإن حلاوة الإيمان لا يعادلها شيء.

أيها المؤمنون: لنمتثل أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولنتبع هديه، ولنغلِّب جانب الهدى على جانب الهوى، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}(36) سورة الأحزاب.

وفروا اللحى ولا تحلقوها، وحفوا الشوارب بقصها ولا تبقوها، وإياكم والإصرار على مخالفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتكونوا من الفاسقين؛ فإن الإصرار على المعصية نقصٌ في الدين، وضررٌ على القلب، وربما يستهين العبد بمعصية فتجره إلى معصية أخرى، ثم الثانية إلى ثالثة وهكذا حتى تتراكم عليه المعاصي فيهلك، ولذلك حذر الله عباده من مخالفة أمر رسوله فقال جل وعلا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (63) سورة النــور.

لقد حذرهم الله بأحد أمرين: الفتنة في الدين وهي الضلال والزيغ أو العذاب الأليم.

كيف تطيب نفس المؤمن بالإصرار على معصية الله ورسوله، وهو يعلم أن رسول الله

-صلى الله عليه وسلم- أمر بالشيء، ثم هو يخالفه ويستمر في هذه المخالفة بتعليلات

غير صحيحة، إما تأويلات فاسدة، وإما استهانة بهذه المعصية، وتحقيراً لها؟!.

لقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من محقرات الذنوب وأخبر أن مثلها كمثل قومٍ نزلوا أرضاً احتطبوا فجاء كل واحدٍ بعود فاجتمع من ذلك حطبٌ كثير وأججوا به ناراً كبيرة، وقال: "إنَّ مُحقِّرات الذُّنوب متى يُؤخَذ بها صاحبُها تُهلِكه"2؛ لأنَّه يقول: هذا هين، وهذا هين حتى تتراكم عليه الذنوب فتهلكه.

أيها المسلمون: ومن المنكرات التي يقع فيها بعض الناس صبغ اللحية بالسواد الذي نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتغيير الشيب وأمر بتجنب السواد؛ كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ "أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ"3. وعند الإمام أحمد –رحمه الله- من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تُقَرِّبُوهُ السَّوَادَ"4.فلا تصبغوا بالسواد شيب الرأس ولا شيب اللحية، لا الرجال ولا النساء، ولكن غيِّروه بالحنَّاء والكَتَم، وبلون غير السواد الخالص، ولا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم كما في الحديث عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَشِيبُ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا كُتِبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ وَرُفِعَ بِهَا دَرَجَةً أَوْ حُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ"5. والله تعالى يقول: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (3) سورة الأعراف. اللهم ألهمنا رشدنا، واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، اللهم ارزقنا الإخلاص في النية، وإصلاح العمل، وارزقنا إيماناً نقوى به على مخالفة الهوى، واتباع الهدى إنك جواد كريم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.. والحمد لله رب العالمين6.


1 رواه  البخاري – 5442-(18 /249) و مسلم -382-(2/72) واللفظ للبخاري.

2 مسند أحمد بن حنبل 22860 (5/331) , المعجم الصغير للطبراني -904- (2 /129) واللفظ لأحمد, قال الشيخ الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم: 2686 في صحيح الجامع .

3 رواه مسلم- 3925- (1/3) وأبو داود -3672- (11/270) والنسائي -4989- (15/ 303),

وابن ماجه -3614- 10/ 499)

4  انظر: مسند أحمد -13098- (27/ 145) قال العلامة الألباني –يرحمه الله- (صحيح) انظر حديث رقم4169- في صحيح الجامع .

5 رواه أحمد -6385 –(13/423)قال العلامة الألباني:(صحيح) انظر حديث رقم:-5760- في صحيح الجامع.

6 المرجع/ كتاب الضياء اللامع من الخطب الجوامع. بتصرف، (ج 3 / ص 134).