الحوض

الحــوض

 

إن من الأمور الغيبية التي يكرم الله به نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم – في يوم المعاد: الحوض، والذي بلغت الأحاديث في إثباته ووصفه مبلغ التواتر؛ كما قال بعض العلماء:

مما تواتر حديث من كذب             ومن بنى لله بيتاً واحتسب

ورؤية شفاعة والحـوض               ومسح خفين وهذا بعض

ومن أوصاف هذا الحوض العظيم -الذي نسأل الله أن يسقينا منه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً- أنه واسع الأرجاء، ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه عدد نجوم السماء، طوله وعرضه سواء، يستمد مادته من نهر الكوثر، الذي أعطاه الله لرسوله في الجنة، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً.

فعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً"1 .

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن قدر حوضي كما بين إيلة وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق بعدد نجوم السماء"2..

وعن ثوبان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لَبِعُقر حوضي أذود الناس لأهل اليمن أضرب بعصاي حتى يرفضّ عليهم". فسئل عن عُرضه فقال: "من مقامي إلى عمان". وسئل عن شرابه فقال: " أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، يغثُ فيه ميزابان من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورِق"3. من ورق: أي من فضَّة.

وأول الناس وروداً على الحوض فقراء المهاجرين، فعن ثوبان -رضي الله عنه- مولى رسول الله عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّ حوضي ما بين عدن إلى أيلة، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، أكاويبه كعدد نجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً، وأول الناس من يرد على الحوض فقراء المهاجرين: الدُّنُس ثياباً، الشُّعث رؤوساً، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب السُّدَد" قال: فبكى عمر  -رضي الله عنه- حتى ابتلت لحيته، فقال: "لكني نكحت المتنعمات، وفتحت لي أبواب السدد، لا جرم أني لا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ، ولا أدهن رأسي حتى تشعث"4.

وكذلك يرِدُه صحابة رسول الله من الأنصار وغيرهم، وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة، فعن عبد الله بن زيد وفي آخره قوله للأنصار: " إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" 5.

 ثم بقية المؤمنين الموحدين المتبعين لدين الله والمستقيمين على سنة رسول الله إلى يوم القيامة.

وفي المقابل هناك أناس يمنعون من الشرب منه، وذلك لأنهم ابتدعوا وأحدثوا وغيروا وبدلوا، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إليّ رجال منكم، حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي رب، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"6.

ولكن يجب أن يعلم أن المقصود بـ" أصحابي"هنا أتباعي من أمتي، ولهذا نظائر في كلام السلف، فمثلاً يقول النووي -رحمه الله-: قال أصحابنا- يعني منهم على مذهبنا وطريقتنا، وليس الذين صحبوه وعاشوا معه، ويقال: أصحاب أبي حنيفة؛ وليس الذين لازموه وعاصروه وإنما هم الذين أتوا من بعده.

ويحتمل "أصحابي" أي الذين ارتدوا من العرب بعد موته -صلى الله عليه وسلم- من الذين لم يخالط الإيمان قلوبهم. وليس المقصود بهم أصحابه الذين عاشوا معه، وجاهدوا في الله حق جهاده ومات رسول الله وهو عنهم راض، بل رضي الله عنهم، واختارهم لصحبة نبيه، قال الله -تعالى-: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة(100).

وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} المجادلة (22). وفال -تعالى-: {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} البينة (8).

 ويوضح ذلك القرطبي  -رحمه الله- فيقول: قال علماؤنا -رحمة الله عليهم أجمعين- فكل من ارتد عن دين الله أو أحدث فيه ما لا يرضاه الله، ولم يأذن به الله، فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه، وأشدهم طرداً من خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض -عليهم لعائن الله- على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم مبدلون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وتطميس الحق، وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع.

ثم البعد قد يكون في حال ويقربون بعد المغفرة إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد، وعلى هذا التقدير يكون نور الوضوء يعرفون به، ثم يقال لهم سحقاً، وإن كانوا من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يظهرون الإيمان ويسرون الكفر فيأخذهم بالظاهر، ثم يكتشف لهم الغطاء فيقول لهم: سحقاً سحقاً، ولا يُخلَّد في النار إلا كافر جاحد مبطل ليس في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان7.

 وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليماً كثيراً.


1 رواه البخاري ومسلم.

2 – رواه البخاري.

3 – رواه مسلم.

4 – رواه ابن ماجه والترمذي. وصححه الألباني، إلا قول عمر فقد استثنى تصحيحه، وكأنه يشير إلى ضعف ثبوت كلام عمر -رضي الله عنه-.

5 – رواه البخاري ومسلم.

6 – رواه البخاري ومسلم.

7 – (التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة) ص352-353. ط: دار الريان للتراث.