حب المساجد

حب المساجد

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.. أما بعد:

المؤمن يحب ما يحبه الله ورسوله، ويبغض ما يبغضه الله ورسوله؛ وإلا فإنه لا يسمى مؤمناً، ولو قلَّبنا النظر في محاب الله لوجدنا المساجد قد نالت نصيباً من ذلك؛ كيف لا وهي أفضل مكان يلتقي فيها العبد بربه، حيث تتنزل الرحمات، وتغفر الزلات، وتمحى الخطيئات، وترتل الآيات، فيه يجتمع أولياؤه، وتوهب آلآؤه، وتذكر أسماؤه، فالمساجد هي أحب البقاع إلى الله – تعالى – كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الوارد عن أبي هريرة – رضي الله عنه – :((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها))1، ومن حبه لها أنه جعل الأجر الكثير لمن بناها؛ فعن عثمان – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة))2.

والنبي – صلى الله عليه وسلم – كان محباً للمساجد؛ حتى أنه أول ما وصل إلى المدينة قام ببناء المسجد، وكان يربي أصحابه على الاهتمام بها وتعظيمها، فلا يباع فيها ولا يشترى؛ قال – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد؛ فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة؛ فقولوا: لا ردها الله عليك))3، بل كان – بأبي وأمي هو – يزيل ما يؤذي المسجد بيده؛ فعن عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها -: "أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأى في جدار القبلة مخاطاً أو بصاقاً أو نخامة فحكه"4.

وكان – صلى الله عليه وسلم – يحبب إليهم المساجد؛ فقد يتمازحون في المسجد، وقد يلعبون وهو ينظر إليهم كما جاء عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "والله لقد رأيت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقوم على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بالحراب في المسجد، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يسترني بردائه لأنظر إلى لعبهم… الحديث"5، وذكر – صلى الله عليه وسلم – الفضل الكبير لمن أحب المساجد وتعلق بها فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله – وذكر منهم:  ورجل قلبه معلق في المساجد))6، أي قد امتلأ قلبه بحبها حتى تعلق بها، قال الإمام ابن حجر – رحمه الله -: "كأنما قلبه معلق في المسجد، ويحتمل أن يكون من العلاقة وهي شدة الحب، ويدل عليه رواية أحمد معلق بالمساجد"7، وقال الإمام النووي – رحمه الله -: "معلق في المساجد وفي بعضها متعلق بالتاء وكلاهما صحيح ومعناه شديد الحب لها، والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دوام القعود في المسجد"8.

ومن معاني حب المساجد ما ذكره النووي في كلامه السابق؛ إذ بيَّن فيه أن حب المساجد يتمثل في ملازمة الجماعة في المسجد، والمحافظة على الصلاة فيها، وذكر ابن رجب – رحمه الله – كلاماً جميلاً يبّيَن فيه أن هذا الفضل لا يكون لكل أحد قال – رحمه الله -: "الرَّجل المعلق قلبه بالمساجد، وفي رواية: ((إذا خرج منه حتى يعود إليه))9، فهو يحب المسجد، ويألفه لعبادة الله فيه، فإذا خرج منه تعلق قلبه به حتى يرجع إليه، وهذا إنما يحصل لمن ملك نفسه وقادها إلى طاعة الله فانقادت له؛ فإن الهوى إنما يدعو إلى محبة مواضع الهوى واللعب إما المباح أو المحظور، ومواضع التجارة واكتساب الأموال، فلا يقصر نفسه على محبة بقاع العبادة إلا من خالف هواه، وقدم عليه محبة مولاه"10، ولكي نعرف ذلك في نفوسنا علينا أن ننظر في أمر وهو: هل كلما خرجنا من المسجد اشتقنا إليه، وإذا التقيناه فرحنا به؟ قال المناوي – رحمه الله -: "((ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه)) كنى به عن التردد إليه في جميع أوقات الصلاة، فلا يصلي صلاة إلا في المسجد، ولا يخرج منه إلا وهو ينتظر أخرى ليعود فيصليها فيه، فهو ملازم للمسجد بقلبه"11.

وهناك أمورٌ تعتبر من علامات حب المساجد: كالعناية بها نظافةً وتطيباً، ومن الحب لها أيضاً الدفاع عنها، وجعل الأوقاف عليها، وتوفير احتياجاتها، وغير ذلك.

والحمد لله رب العالمين.


1 رواه مسلم برقم (670).

2 رواه البخاري برقم ( 493)، ومسلم برقم (533).

3 رواه الترمذي(1321)، وقال حديث حسن صحيح، وابن خزيمة(1305 )، والحاكم(2339)، وابن حبان(1650)،وصححه الألباني (1/ 71).

4 رواه مسلم برقم (549).

5 رواه البخاري برقم (443)، ومسلم برقم (892).

6 رواه البخاري برقم (1357)، ومسلم برقم (1031).

7 فتح الباري (2/145).

8 شرح مسلم للنووي (7/121).

 9رواه مسلم برقم (1712).

10 فتح الباري لاين رجب الحنبلي (5/29).

11 نقلاً من المستطاب في فقه السنة والكتاب للألباني – رحمه الله تعالى – ص632.