الخيرات الحسان

الخيرات الحسان

 

الحمد لله الخالق العظيم، والرازق الكريم، والفتاح العليم، والصلاة والسلام على النبي الرحيم، خير داع إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى خلق داراً لعباده المؤمنين فيها من النعيم المقيم ما تقر به الأعين وترتاح له النفوس، وكل ذلك جزاء لهم على ما أسلفوه في هذه الدنيا من الأعمال الصالحة كما قال -تعالى- بعد أن ذكر نعيم الجنة: (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا) (22) سورة الإنسان.

وإن من أحسن ما يستلذ به أهل الإيمان في الجنان معاشرة الخيرات الحسان، اللاتي لم يطمثهن إنس ولا جان، وقد جاء وصفهن في القرآن بأحسن وصف، ولنذكر الآيات الكريمات اللاتي ذكرت صفات الحور العين:

قال الله -تعالى-: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} (54) سورة الدخان. ومعنى حور: أي بِيض، وعين: أي جميلات العيون متسعات.

وقال سبحانه: {وَحُورٌ عِينٌ*كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} (22-23) سورة الواقعة. أي كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه.

وقال -تعالى-:  (إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء*فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا*عُرُبًا أَتْرَابًا} (35-37) سورة الواقعة.

والمعنى: أعدناهن في النشأة الأخرى بعدما كُنَّ عجائز رُمصاً صرن أبكاراً عُرباً أي بعد الثيوبة عُدْنَ أبكاراً، عرباً متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة. وأتراباً: أي في سِنٍّ واحدة، وهي سن الشباب ثلاث وثلاثون سنة.

وقال -عز وجل-: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ*فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ*كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} (56-58) سورة الرحمن.

ومعنى قاصرات الطرف: أي تقصر طرفها ونظرها على زوجها ولا تتعداه إلى غيره، وهذا من تمام حب الزوج والرضا به، فلا يرين شيئاً في الجنة أحسن من أزواجهن. والياقوت والمرجان: نوعان من الجواهر الآخذة بالقلوب.

وقال -تعالى-: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ*فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ*حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} (70-72) سورة الرحمن. مقصورات في الخيام: أي خيام اللؤلؤ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة واحدة أربعة فراسخ في أربعة فراسخ عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب، قاله ابن عباس.1

وقال -تعالى-: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ*كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} (48-49) سورة الصافات. سبق معنى قاصرات الطرف، وأما معنى عِين: حسان الأعين، وقيل: ضخام الأعين، وهي النجلاء العيناء، فوصف عيونهن بالحسن والعفة. ومعنى بيض مكنون: أي من حسن أبدانهن وجمالها كأنهن بيض محصَّن لم تمسه الأيدي.

هذه من الأوصاف التي ذكرها الله -عز وجل- في كتابه الكريم، وقد ورد في السنة النبوية من الأوصاف ما يشوق النفوس المؤمنة لنيل ذلك الجمال الباهر، والمقام الطاهر.

فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (لَرَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قِيدٍ -يَعْنِي سَوْطَهُ- خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا).2 والنصيف هو الخمار الذي على رأسها!

وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ الْمُؤْمِنُ فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا)3.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّذِينَ عَلَى إِثْرِهِمْ كَأَشَدِّ كَوْكَبٍ إِضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ لَحْمِهَا مِنْ الْحُسْن..)4.

وورد في حديث ابن مسعود الطويل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر ما يكون في يوم القيامة من نعيم أدنى أهل الجنة منزلاً، قال: (فَيَنْطَلِقُ أَمَامَهُ –يعني الخازن أو الخادم- حَتَّى يَفْتَحَ لَهُ الْقَصْرَ"، قَالَ:"وَهُوَ فِي دُرَّةٍ، مُجَوَّفَةٍ سَقَائِفُهَا، وَأَبْوَابُهَا، وَأَغْلاقُهَا، وَمَفَاتِيحُهَا مِنْهَا تَسْتَقْبِلُهُ جَوْهَرَةٌ خَضْرَاءُ مُبَطَّنَةٌ بِحَمْرَاءَ، كُلُّ جَوْهَرَةٍ تُفْضِي إِلَى جَوْهَرَةٍ عَلَى غَيْرِ لَوْنِ الأُخْرَى، فِي كُلِّ جَوْهَرَةٍ سُرَرٌ وَأَزْوَاجٌ، وَوَصَائِفُ أَدْنَاهُنَّ حَوْرَاءُ عَيْنَاءُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ حُلَّةً يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ حُلَلِهَا، كَبِدُهَا مِرْآتُهُ وَكَبِدُهُ مِرْآتُهَا، إِذَا أَعْرَضَ عَنْهَا إِعْرَاضَةً ازْدَادَتْ فِي عَيْنِهِ سَبْعِينَ ضِعْفًا عَمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِذَا أَعْرَضَتْ عَنْهُ إِعْرَاضَةً ازْدَادَ فِي عَيْنِهَا سَبْعِينَ ضِعْفًا عَمَّا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ لَهَا: وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتِ فِي عَيْنِي سَبْعِينَ ضِعْفًا، وَتَقُولُ لَهُ: وَأَنْتَ وَاللَّهِ لَقَدِ ازْدَدْتَ فِي عَيْنِي سَبْعِينَ ضِعْفًا).5

أيها المؤمنون: إن بلوغ هذا النعيم المقيم لا يكون إلا بالأعمال الصالحة الخالصة لله المتَّبَعِ فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واجتناب الشرك والكفر والطاغوت والمعاصي، والتوبة والاستغفار من كل ذلك، كما قال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (97) سورة النحل، وقال -تعالى-: {..وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} (40) سورة غافر. وقال -عز وجل-: {..فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (110) سورة الكهف.

والآيات في هذا كثيرة جداً.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى!) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: (مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى)6.

نسأل الله بمنه وكرمه الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ به من النار وما قرب إليها من قول وعمل.

وصلى الله وسلم على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.


1 – تفسير ابن كثير (4/357).

2– رواه البخاري برقم (2587).

3– رواه مسلم برقم (5070).

4– رواه البخاري برقم (3007).

5– رواه الطبراني في المعجم الكبير (9647). وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3591): صحيح.

6–  رواه البخاري برقم (6737).