الشورى

الشــورى

الشــورى

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن من المبادئ الإسلامية السامية، والأخلاق القرآنية الرفيعة التي مدح الله المؤمنين بها: الشورى، والتشاور؛ قال تعالى عن المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} سورة الشورى(38). أي لا يبرمون أمراً حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب، وما جرى مجراها؛ كما قال تبارك وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} سورة آل عمران(159). ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيب بذلك قلوبهم؛ كما رويت في ذلك قصص كثيرة؛ فقد استشار الصحابة في أُسارى بدر، وفي غير ذلك.

بل كان يقول: (أشيروا عليَّ في أناس أبنوا -أي اتهموا- أهلي). كما في قصة الإفك من حديث عائشة عند البخاري ومسلم.

وقد بين العلماء أهمية الشورى، فقد قال ابن عطية: “والشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه”1. وقد قال عمر بن عبد العزيز: “إن المشورة والمناظرة بابا رحمة، ومفتاحا بركة، لا يضل معهما رأي، ولا يفقد معهما حزم”2. وقال الماوردي: “اعلم أن من الحزم لكل ذي لب أن لا يبرم أمراً ولا يمضي عزماً إلا بمشورة ذي الرأي الناصح، ومطالعة ذي العقل الراجح”3.

بل إن الاستشارة سبب من أسباب العصمة من الندامة؛ لأن فيها تطبيقاً لما جاء في كتاب الله، وفي سنة رسول الله، وما فعله الأئمة؛ حتى قال بعض الأدباء: “ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار”4.

بل إن : “الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب على الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا”؛ كما قاله ابن العربي المالكي-رحمه الله-5.

وقد نصح الشعراء بالأخذ بالشورى، فقال أحدهم:

شاور صديقك في الخفي المشكل*** واقبل نصيحة ناصح متفضل

فالله قد أوصـى بـذاك نبيه *** في قوله شاورهم وتوكـل6

 وأما عن أوصاف المستشار وشروطه، فقد جاء بيان ذلك في الحديث الذي أخرجه الترمذي وأبو داود من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (والمستشار مؤتمن)؛ والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع (6700).

وعليه فليس كل أحد يستشار، وإنما يستشار من يثق في دينه وأمانته، قال المناوي: “لكن لا يشاور إلا أميناً، حاذقاً، ناصحاً، مجرباً، ثابت الجأش، غير معجب بنفسه، ولا متلون في رأيه، ولا كاذب في مقاله، فمن كذب لسانه كذب رأيه، ويجب كونه فارغ البال وقت الاستشارة”7.

وقال البخاري: “وكانت الأئمة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها”. وقال سفيان الثوري: “ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة ومن يخشى الله تعالى”8.

فإذا استشارك أخوك المسلم فلا تبخل عليه برأيك خاصة إذا كنت عالماً بما استشرت به؛ وعليك أن تنصح له في المشورة، ولا تغشه ولا تخدعه؛ فإن من استشارك فقد ائتمنك.

كما عليك أن تعلم أنه لن يستشيرك إلا من يحبك، ويحب أن يؤخذ بمشورتك، فإياك أن تغشه أو تدلس عليه، بل عليك أن تمحض له النصيحة بالفعل إن رأيت ذلك، أو بعدمه إن رأيت عدمه، فقد جاء في الحديث الوعيد الشديد في حق من استشير فغش في المشورة؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (… ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه…)9. والمؤمنون  نصحة والمنافقون غششة- والعياذ بالله من النفاق-.

بل إن الغش في المشورة سبب لكثير من المشاكل؛ فكم من رجل أو امرأة استشير في الزواج من المرأة أو من الرجل الفلاني فكانت المشورة في غير محلها، فحصل بعد ذلك ما لا يحمد؟

وكم وقعت من المشاكل في باب التجارة عندما لم تكن المشورة صادقة فحصلت الخسارة الكبيرة، فأصبح ذلك المستشار يلعن بسبب أنه لم يصدق في مشورته؟ وكم..؟ وكم..؟.

وشرعت الشورى لأن: “الشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف وينظر أقربها قولا إلى الكتاب إن أمكنه فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب”10.

وقال بعض العلماء: “من حق العاقل أن يضيف إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زل، والعقل الفرد ربما زل”11.

وقال بعض الحكماء: ” الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه”12.

ولا يكفي في هذا مجرد الاستشارة بل يستحب مع ذلك استخارة الله العالم بخفايا الأمور، فيركع صاحب الشأن لله ركعتين من غير الفريضة، ويدعو بالدعاء المأثور الذي جاء في حديث جابر-رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن يقول: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به. قال: (ويسمي حاجته)13. أي بدل قوله: (هذا الأمر) فيقول مثلا: “اللهم إن كنت تعلم أن زواجي من فلانة بنت فلان خير لي… “أو” اللهم إن كنت تعلم أن سفري غدا “مكان كذا ويسميه” هو خير لي …”. أو ما أشبه ذلك.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


 


1  تفسير القرطبي(4/ 240)

2 أدب الدنيا والدين(260)

3 المصدر السابق.

4 المصدر السابق، صـ (261).

5 تفسير القرطبي (16/ 34).

6  المصدر السابق (4/ 240).

7 فيض القدير شرح الجامع الصغير(1/275) للمناوي. الناشر: المكتبة التجارية الكبرى – مصر. الطبعة الأولى (1356هـ). ومع الكتاب: تعليقات يسيرة لماجد الحموي.

8  تفسير القرطبي(4/ 240).

9  رواه أحمد، وقال محقق جامع الأصول (12/562): “إسناده حسن”.

10  تفسير القرطبي(4/ 240).

11  أدب الدنيا والدين، صـ(263).

12 المصدر السابق، صـ(289).

13 رواه البخاري.