صلاة الكسوف في المسجد

صلاة الكسوف في المسجد

 

إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأصلي وأسلم على الحبيب المصطفى – عليه أفضل الصلاة والتسليم -، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

قال الله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}1، خلق الله سبع سماوات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً، فالشمس والقمر والليل والنهار آيات عظيمة باهرة دالة على رب عظيم، وإله قوي قدير عليم، فتبارك الله الذي {جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً.وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً}2.

وإن من آيات الله الباهرة في الشمس والقمر ما يجريه الله عليهما من الخسوف والكسوف بذهاب ضوئهما، واضمحلال سلطانهما، وزوال جمالهما وبهائهما.

فسبحان من لا يقدر الخلق قدره              ومن هو فوق العرش فرد موحد

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}3.

إن انكساف الشمس والقمر وخسوفهما يدل على قدرة الله النافذة، وحكمته البالغة، وقد أشار النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى حكمة هذه الآية العظيمة فعن عائشة – رصي الله عنها – زوج النبي  – صلى الله عليه و سلم – قالت: ((خسفت الشمس في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه، فكبر فاقترأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً، ثم قال: ((سمع الله لمن حمده))، فقام ولم يسجد، وقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى، ثم كبر وركع ركوعاً طويلاً وهو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: ((سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد))، ثم سجد، ثم قال في الركعة الآخرة مثل ذلك، فاستكمل أربع ركعات في أربع سجدات، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف، ثم قام فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: ((هما من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة))4، فالحكمة الكبرى من الكسوف تخويف العباد وزجرهم عن السيئات، وحثهم على الطاعات.

وقد كان من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يفزع إلى الصلاة في المسجد لأن المساجد هي خير البقاع إلى الله – تعالى -، وصلاة الكسوف في المسجد قال بها جمهور أهل العلم5، إلا أن الإمام مالكاً – رحمه الله تعالى – قال: "ولم يبلغنا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صلى إلا في خسوف الشمس، ولم يعمل أهل بلدنا فيما سمعنا وأدركنا إلا بذلك"، قال: "وما سمعنا أن خسوف القمر يجمع بهم الإمام"6، قال ابن عبد البر: "وهذا شيء لم يقله أحد من العلماء غيره، وسائر العلماء يرون صلاة كسوف القمر سنة كل على مذهبه"7.

وتشهد النساء صلاة الكسوف بالمسجد مع الرجال، وأباح بعض المالكية – وفي رواية عن أحمد – إقامة صلاة الكسوف بالمصلى8، قال الإمام البخاري – رحمه الله -: "باب صَلَاةِ الْكُسُوفِ فِي الْمَسْجِدِ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: ((أَنَّ يَهُودِيَّةً جَاءَتْ تَسْأَلُهَا، فَقَالَتْ: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا فَكَسَفَتْ الشَّمْسُ، فَرَجَعَ ضُحًى، فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بَيْنَ ظَهْرَانَيْ الْحُجَرِ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ سُجُودًا طَوِيلًا، ثُمَّ قَامَ فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ سَجَدَ وَهُوَ دُونَ السُّجُودِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ))9 قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: " ولم يقع فيه التصريح بكونها في المسجد، لكنه يؤخذ من قولها فيه فمر بين ظهراني الحجر لأن الحجر بيوت أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم -، وكانت لاصقة بالمسجد، وقد وقع التصريح بذلك في رواية سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن عمرة عند مسلم ولفظه ((فخرجت في نسوة بين ظهراني الحجر في المسجد، فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – من مركبه، حتى أتى إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه… الحديث))، والمركب الذي كان النبي – صلى الله عليه وسلم – فيه بسبب موت ابنه إبراهيم، فلما رجع – صلى الله عليه وسلم – أتى المسجد ولم يصلها ظاهراً، وصح أن السنة في صلاة الكسوف أن تصلى في المسجد، ولولا ذلك لكانت صلاتها في الصحراء أجدر برؤية الانجلاء"10.

والله أعلم.


1 سورة الأعراف آية (54).

2 سورة الفرقان آية (61-62).

3 سورة الصافات آيات (180-182).

4 البخاري (1044)؛ ومسلم (901).

5 الإنصاف (2/442)، والفروع لابن مفلح (2/151)، والفتاوى لابن تيمية (23/112-134)، والمجموع للنووي (5/51)، والأم للشافعي (1/242)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/401).

6 المدونة الكبرى للإمام مالك (1/165).

7 التمهيد لابن عبد البر (3/317).

8 شرح فتح القدير لابن الهمام (2/56)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/402)، والإنصاف (2/442)، والفروع (2/151).

9 البخاري برقم (1056)، وصحيح مسلم برقم (903).

10 فتح الباري لابن حجر (4/10).