وأملي لهم

وأملي لهم

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله،  بلغ الرسالة، وأدَّ الأمانة، ونصح لهذه الأمة، وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين من ربه،-صلَّى الله عليه وسلم-، وسلم تسليماً كثيراً، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه، واقتفى أثره، ودعا بدعوته إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها الناس: إنَّ من سنن الله الكونية التي لا تتغير ولا تتبدل: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} سورة فاطر(43). وهو أنه ينزل العقوبة بمن كفر به، وكذب رسله، وحارب أوليائه، وخالف أمره ونواهيه، ولكنه-سبحانه- يؤخر نزول العقوبة ليستدرجهم، ويمهلهم، لعلهم يتوبون ويرجعون إليه، قال تعالى: {َذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} سورة القلم(44-45). وقال تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} سورة الطارق(17). وتأخير اللهُ العقوبة للمشركين ليس رضاً بأفعالهم، بل ذلك سنة من سنن الله، وهو أنه يمهل العُصاة مدة1. ولكنه إذا نزلت به العقوبة، فلن يفلت منها؛ فعن أبي موسى-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) قال ثم قرأ: {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَـالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}2 سورة هود(102). ومع ذلك فإنه من فضله ورحمته بخلقه؛ فأنه لا ينزل العقوبة إلا بعد أن يحذرهم وينذرهم، وبعد أن يخالفوا أوامره ونهيه، ولو أنه-سبحانه- عاقبهم لما كان ظالماً لهم،-وحاشاه من ذلك-؛ لأنه القائل في كتابه الكريم: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} سورة الأنفال(51). وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} سورة يونس(44).

أيها الناس: لقد كُثر اليوم أسباب حلول العقوبات، فلقد فشت وانتشرت المنكرات، وقلَّ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، بل قُل فشا الشرك وانتشر، وتجبر القوي على الضعيف، وكفر الناس بنعم الله عليهم، وكثر فيهم الطمع والجشع، وتنافسوا في حطام الدنيا الفانية، وبخلوا بما أعطاهم الله منها، وهذه كلها أسباب لنزول العقوبات- والعياذ بالله-. ولقد ذكر الله ورسوله لنا صوراً كثيرة من صور العقوبات التي حلت بمن قبلنا من الأمم، وذلك لنأخذ العظة والعبرة، قال الله-تعالى-: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} سورة الإسراء(17). وقال تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة آل عمران(188). أي فلا تظنَّهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعده لأعدائه في الدنيا من الخسف والمسخ والرجف والقتل، وما أشبه ذلك من عقاب الله ولا هم ببعيد منه3. وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} سورة التوبة(70). بل إنَّ هذه العقوبات الإلهية التي حلت بالأمم السابقة كانت- في كثير من صورها- من جنسها، واسمع إلى العلامة ابن القيم-رحمه الله- ليزيد لك هذا لأمر وضوحاً فيقول: وقد جعل الله-سبحانه-أعمال البر والفاجر مقتضيات لآثارها في هذا العالم اقتضاء لا بد منه، فجعل منع الإحسان والزكاة والصدقة سبباً لمنع الغيث من السماء والقحط والجدب، وجعل ظلم المساكين والبخس في المكاييل والموازين وتعدي القوي على الضعيف سبباً لجور الملوك والولاة الذين لا يرحمون إن استرحموا، ولا يعطفون إن استعطفوا، وهم في الحقيقة أعمال الرعايا ظهرت في صور ولاتهم، فإن الله-سبحانه- بحكمته وعدله يظهر للناس أعمالهم في قوالب وصور تناسبها، فتارة بقحط وجدب، وتارة بعدو، وتارة بولاة جائرين، وتارة بأمراض عامة، وتارة بهموم والآم وغموم تحضرها نفوسهم، لا ينفكون عنها، وتارة بمنع بركات السماء والأرض عنهم، وتارة بتسليط الشياطين عليهم تؤزهم إلى أسباب العذاب أزاً، لتحق عليهم الكلمة وليصير كل منهم إلى ما خلق له، والعاقل يسّير بصيرته بين الأقطار العالم فيشاهده، وينظر مواقع عدل الله وحكمته4.

أيها السادة النبلاء: إنَّ العقوبات التي حلت بالأمم السابقة متعددة، وكل أمة عقوبتها من جنس المعصية التي ارتكبتها، ومن تلك العقوبات؛ الغرق والطوفان، وهي عقوبة عاقب الله بها قوم نوح لما كفروا، قال تعالى: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَـالِمُونَ} سورة العنكبوت(14). وقال: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا} سورة نوح (25). أي بكثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم أغرقوا فأدخلوا نار5. وكذلك عاقب الله فرعون وجنوده بالغرق في اليم؛ كما في قوله: {فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} سورة الأعراف(136). وقال: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} سورة الأنبياء(77). كما عاقب الله بالسيل والطوفان مملكة سبأ؛ كما في قول العلي الأعلى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} سورة سبأ(16-17). وقد توعد الله الآمنين من مكره بعقوبة الغرق، فقال تعالى: {أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مّنَ الرّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} سورة الإسراء(69). ومن صور العقوبات التي حلت بمن كذب وتكبر من الأمم السالفة؛ الريح العاتية، وهي عقوبة عاقب الله بها قوم عاد لما كفروا بربهم، قال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} سورة الحاقة(6). ويقول: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} سورة فصلت(16). وقال: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَـذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} سورة الأحقاف(24). بل كان نبينا-عليه الصلاة والسلام- إذا رأى ريحاً فزع فزعاً بليغاً؛ فعن عائشة-رضي الله عنها-أن رسول الله كان إذا عصفت الريح يقول: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسـلت به)6. وعنها-رضي الله عنها- قالت: وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ فقال: (يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، ورأى قوم العذاب فقالـوا: {هَـذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا})7. ومن صور العقوبات التي حلت بالسابقين؛ الصيحـة؛ وهي عقوبة عاقب الله بها قوم صالح لما كفروا وكذبوا، قال تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} سورة هود(67). وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} سورة القمر(31). أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ملاذ الخائفين، وحافظ عباده الموحدين، ومهلك الكافرين المعاندين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان على يوم الدين.

أما بعد:

أيها الناس: ومن صور العقوبات التي حلت بالأمم السابقة؛ الخسف؛ وهو عقوبة عاقب الله بها قارون لما بغى وتجبر، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ} سورة القصص(81). وهذه العقوبة أعني عقوبة الخسف هي أحد أنواع العقوبات التي تكون في آخر الزمان؛ كما أخبر بذلك الصادق المصدوق؛ فعن عمران بن حصين أنه سمع النبي-صلى الله عليه وسلم-يقول: (في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف؛ إذا ظهرت القينات والمعازف، وشرب الخمور)8. ولقد حذر الله العُصاة والمذنبين-أمثالنا نسأل الله أن يحفظن بحفظه- من حلول هذه العقوبة بهم، فقال تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} سورة النحل(45). وقال: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} سورة سبأ(9).

أيها الأخوة الفضلاء: ومن صور العقوبات التي حلت وتحل بمن كفر بالله، وكذب رسله، وخالف أمره، وارتكب نهيه؛ الجوع والعطش، وقلة الرزق، وانعدام الأمن؛ وهذه العقوبة عاقب الله بها قوم سبأ لما كفروا نعم الله، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} سورة النحل(112). وقال أيضاً: {وَبَدَّلْنَـاهُمْ بِجَنَّـاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَـاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ} سورة سبأ(16-17). ومن صور العقوبات؛ الفرقة والاختلاف، وتسليط الأعداء، والذلة والمهانة، وكثرة القتل والحروب، وهذه العقوبة عاقب الله بها بني إسرائيل، فجعلهم فرقاً شتى، وضرب عليهم الذلة والمهانة، وسلط عليهم من يسومهم سوء العذاب، فقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء الْعَذَابِ} سورة الأعراف(167). وقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} سورة آل عمران(112). وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} سورة الأنعام(65). وغير ذلك من العقوبات التي ينزلها الله بمن عصاه، وكذب رسله، وحارب شريعته. فالله الله في تقوى الله حق التقوى، والحذر الحذر من إتباع الشيطان والنفس والهوى. اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين. اللهم وفقنا لطاعتك، وجنبنا معصيتك. ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 – انظر تفسير القرطبي(9/376).

2 – رواه البخاري.

3 – تفسير الطبري(4/209).

4 – زاد المعاد(4/363).

5 – تفسير ابن كثير(8/263).

6 – رواه مسلم.

7 – رواه البخـاري ومسلم.

8 – رواه الترمذي، ونحوه في أبي داود.