أول جمعة في رجب

أول جمعة في رجب

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:

فإن الله – سبحانه وتعالى – أمر عباده المؤمنين بالمحافظة على السنة، والدعوة إليها، وحث على اتباع رسوله، وأمر به وأوجبه؛ فقال – تعالى -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}1، وجعل الله – سبحانه وتعالى – الفوز بمحبته – عز وجل – إنما ينال باتباع رسوله قال – تعالى -: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }2 قال الحسن البصري – رحمه الله تعالى -: (ادعى أقوام محبة الله فابتلاهم (أو قال فامتحنهم) بهذه الآية: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي ….}.

ونفى الله الإيمان عن من لم يحكم رسول الله، ولم يرض بحكمه فقال – تعالى -: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}3، وجعل الله – سبحانه وتعالى – الاحتكام إليه وإلى رسوله عند التنازع والاختلاف فقال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}4، وحذر الله من مخالفة سنته، وتوعد المخالف بالفتنة في الدنيا والعذاب الأليم الموجع في الآخرة فقال – تعالى -: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}5.

وفي هذا الزمان الذي قلَّ فيه العلم، وكثير فيه الجهل؛ ترى انتشار البدع وشيوعها، حيث قد أحدث الناس بدعاً كثيرة في الأزمنة والأمكنة، ومما أحدثه الناس في زماننا هذا بدعة "جمعة رجب"، فإنه لم يكن لها ذكر في وقت السلف، ولا جرى فيها ما يوجب تعظيمها، وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب، وللعلم فإن تعظيم هذا اليوم والليلة إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة.

وقد روي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء، ولفظه ((من صلى المغرب في أول ليلة من رجب، ثم صلى بعدها عشرين ركعة، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد مرة، ويسلم فيهن عشر تسليمات، أتدرون ما ثوابه؟ فإن الروح الأمين جبريل علمني ذلك. قلنا: الله ورسوله أعلم.

قال: حفظه الله في نفسه وأهله وماله وولده، وأجير من عذاب القبر، وجاز على الصراط كالبرق بغير حساب ولا عذاب)).

وإلبك ذكر بعض أهل العلم الذين قالوا بوضعه: الإمام ابن الجوزي6، والإمام الذهبي قال فيه: في إسناده مظلم، فيه الحسين بن إبراهيم الكاذب7، والإمام ابن القيم8 قال فيه: كذب مفترى، والإمام ابن حجر العسقلاني قال فيه: هذا حديث باطل9، والإمام الألباني10، وغيرهم من أهل العلم الكثير، بل لا نعلم أحداً من أهل السنة حسَّن هذا الحديث أو قواه، ولم يأخذ به إلا أهل البدع والأهواء، ولم ينقل أن النبي – صلى الله عليه وسلم – فعلها، ولا أحد من أصحابه، ولا القرون المفضلة، ولا الأئمة، وهذا وحده كافٍ في إثبات أنها بدعة مذمومة وليست سنة محمودة، وقد حذر منها العلماء ، وذكروا أنها بدعة ضلالة قال النووي – رحمه الله -: "الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهي ثنتا عشرة ركعة تصلى بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة في رجب، وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة، وهاتان الصلاتان بدعتان ومنكران قبيحتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب، وإحياء علوم الدين، ولا بالحديث المذكور فيهما، فإن كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما فإنه غالِط في ذلك، وقد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتاباً نفيساً في إبطالهما فأحسن فيه وأجاد – رحمه الله -"11 انتهى، وقال أيضاً في شرح مسلم: "قاتل الله واضعها ومخترعها، فإنها بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة وجهالة، وفيها منكرات ظاهرة، وقد صنف جماعة من الأئمة مصنفات نفيسة في تقبيحها وتضليل مصليها ومبتدعها، ودلائل قبحها وبطلانها، وتضلل فاعلها؛ أكثر من أن تحصر والله أعلم12".

وقال ابن عابدين: ومن هنا يعلم كراهة الاجتماع على صلاة الرغائب التي تفعل في رجب في أولى جمعة منه، وأنها بدعة، وللعلامة نور الدين المقدسي فيها تصنيف حسن سماه "ردع الراغب عن صلاة الرغائب" أحاط فيه بغالب كلام المتقدمين والمتأخرين من علماء المذاهب الأربعة".13

وسئل ابن حجر الهيتمي – رحمه الله -: هل تجوز صلاة الرغائب جماعة أم لا؟ فأجاب: "أما صلاة الرغائب فإنها كالصلاة المعروفة ليلة النصف من شعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان، وحديثهما موضوع، فيكره فعلهما فرادى وجماعة".14

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: "فأما إنشاء صلاة بعدد مقدر، وقراءة مقدرة، في وقت معين؛ تصلى جماعة راتبة كهذه الصلوات المسئول عنها كصلاة الرغائب في أول جمعة من رجب، والألفية في أول رجب، ونصف شعبان، وليلة سبع وعشرين من شهر رجب، وأمثال ذلك؛ فهذا غير مشروع باتفاق أئمة الإسلام، كما نص على ذلك العلماء المعتبرون، ولا ينشئ مثل هذا إلا جاهل مبتدع، وفتح مثل هذا الباب يوجب تغيير شرائع الإسلام، وأخذ نصيب من حال الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله"15.

وسئل شيخ الإسلام – أيضاً – عنها فقال: "هذه الصلاة لم يصلها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا رغب فيها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولا أحد من السلف، ولا الأئمة، ولا ذكروا لهذه الليلة فضيلة تخصها، والحديث المروي في ذلك عن النبي – صلى الله عليه وسلم – كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بذلك; ولهذا قال المحققون: إنها مكروهة غير مستحبة"16.

والله أعلم


1 – سورة الحشر (7).

2 – سورة آل عمران (31).

3 – سورة النساء (6).

4 – سورة النساء (59).

5 سورة النور (63).

6 – الموضوعات (2/434).

7 ترتيب الموضوعات (161).

8 – المنار المنيف (77).

9 تبيين العجب (31).

10 – السلسلة الضعيفة (1452)؛ ضعيف الجامع (2852).

11 – المجموع (3/548).

12 – شرح النووي على مسلم (8/20).

13 – حاشية ابن عابدين (2/26).

14 – الفتاوى الفقهية الكبرى (1/216).

15 – الفتاوى الكبرى (2/239).

16 – الفتاوى الكبرى (2/262).